استطلاعات

 
المركز الإعلامي لكتلة نواب
الإخوان المسلمين بالإسكندرية

محاولة لفهم ما جرى في غزة
الشرق القطرية
بقلم : فهمي هويدى
هل الذي حدث في غزة انقلاب أم أنه إجهاض لانقلاب؟ هذا السؤال ألح عليَّ بشدة حين تجمعت لدى مجموعة من الشهادات والوثائق المهمة ذات الصلة بالموضوع. وها أنا أضع خلاصاتها وبعض نصوصها بين يديك، كي تشاركني التفكير في الإجابة عن السؤال.
(1)
يوم الخميس الماضي 14/6 نشرت صحيفة "يونجافليت" الألمانية تقريراً لمعلقها السياسي فولف راينهارت قال فيه إن إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش خططت منذ فترة طويلة لتفجير الأوضاع الداخلية الفلسطينية، وتحريض تيار موال لها داخل فتح على القيام بتصفيات جسدية للقادة العسكريين في حركة حماس. وقد تحدث في هذا الموضوع صراحة الجنرال "كيث دايتون" مسؤول الاتصال العسكري الأمريكي المقيم في تل أبيب، في جلسة استماع عقدتها في أواخر مايو الماضي لجنة الشرق الأوسط بالكونجرس الأمريكي.
وفي شهادته ذكر الجنرال دايتون بأن للولايات المتحدة تأثيراً قوياً على كافة تيارات حركة فتح وأن الأوضاع ستنفجر قريباً في قطاع غزة، وستكون عنيفة وبلا رحمة. وقال إن وزارة الدفاع الأمريكية والمخابرات المركزية ألقتا بكل ما تملكان من ثقل، في جانب حلفاء الولايات المتحدة و"إسرئيل" داخل حركة فتح. كما أن تعبئة الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة لرئيس السلطة الفلسطينية ضد حماس، تمثل خياراً استراتيجياً للإدارة الأمريكية الحالية. وهو ما يفسر أن الكونجرس لم يتردد في اعتماد مبلغ 59 مليون يورو لتدريب الحرس الرئاسي في بعض دول الجوار، وإعداده لخوض مواجهة عسكرية ضد حركة حماس.
أضاف المعلق السياسي للصحيفة الألمانية أن التيار الأمريكي الإسرائيلي داخل فتح لم ينجح رغم كل الدعم السخي الذي قدم إليه في كسر شوكة حماس. وهو ما دفع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى استدعاء خبرتها السابقة في جمهورية السلفادور، وتوجيهها للعناصر الفتحاوية المرتبطة بها لتشكيل فرق الموت لاغتيال قادة وكوادر حماس، وتحدث راينهارت في هذه النقطة عن خيوط كثيرة تربط بين فرق الموت والحرس الرئاسي الفلسطيني والمستشار الأمني النائب محمد دحلان، ونسب إلى خبيرة التخطيط السياسي بالجامعات الإسرائيلية "د. هيجا ياو مجارتن" قولها إن دحلان مكلف من وكالة المخابرات المركزية وأجهزة أمريكية أخرى، بتنفيذ مهمة محددة، هى تصفية أي مجموعات مقاومة ل"إسرائيل" داخل وخارج حركة حماس.
(2)
في 10 يناير الماضي، وجه رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية رسالة إلى رئيس السلطة أبو مازن، نصها كما يلي:
نهديكم أطيب التحيات، ونسأل الله لكم التوفيق والسداد. لقد توافرت لنا بعض المعلومات في الآونة الأخيرة، تشير إلى خطة أمنية تهدف إلى الانقلاب على الحكومة والخيار الديمقراطي للشعب الفلسطيني. ويمكن إيجاز هذه المعلومات في النقاط التالية:
- إدخال كميات ضخمة جداً من السلاح لصالح حرس الرئاسة، من بعض الجهات الخارجية، بمعرفة ومباركة من أمريكا و"إسرائيل".
- تشكيل قوات خاصة من الأمن الوطني تقدر بالآلاف لمواجهة الحكومة الفلسطينية والقوة التنفيذية واعتماد "مقر أنصار في غزة" مقراً مركزياً لها.
- تجهيز هذه القوات بالسيارات والدروع والسلاح والذخيرة وصرف الرواتب كاملة للموالين.
- تعقد اجتماعات أمنية حساسة لعدد من ضباط الأمن الفلسطينى في مقر السفارة الأمريكية حيث تناقش فيها خطط العمل.
- البدء بإجراءات إقالة لعدد من الضباط واستبدالهم بشخصيات أخرى، مع العلم أن لجنة الضباط هي المختصة بهذه الشؤون، كذلك تعيين النائب محمد دحلان من طرفكم شفوياً كقائد عام للأجهزة الأمنية، وفي ذلك مخالفة قانونية.
- تهديد الوزراء ورؤساء البلديات بالقتل، حيث تم الاعتداء على الوزير وصفي قبها وزير الأسرى، وإعلامه عبر مرافقه أن الاعتداء القادم سيقتله. وكذلك تم تكليف أحد ملياردي فتح من غزة بتصفية الوزير عبد الرحمن زيدان ـ وزير الأشغال والإسكان مقابل 30 ألف دولار.
الأخ الرئيس: بناء على ما سبق وغيره الكثير من المعلومات التي نمتلكها، فإننا نعبر عن بالغ أسفنا إزاء ما ورد، حيث إن ذلك يهدد النظام السياسي الفلسطيني، والنسيج الوطني والاجتماعي ويعرض القضية برمتها للخطر. نرجو منكم اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لحماية شعبنا وقضيتنا، ونحن سنظل أوفياء وحريصين على وحدة الشعب ولحمته ـ وأقبلوا وافر التحية ـ.
في الوقت الذي أرسل فيه السيد إسماعيل هنية هذا الخطاب إلى أبو مازن، كانت أمامه معلومات محددة حول بعض تفصيلات الإعداد للخطة الأمنية، التي منها على سبيل المثال: تعيين محمد دحلان قائداً عاماً للأجهزة الأمنية ـ اختيار 15 ألف عنصر من الموالين، لتشكيل قوة خاصة في الأمن الوطني لمواجهة حماس ـ دخول150 سيارة جيب مزودة بأجهزة الاتصال اللاسلكي ـ توفير 2000 مدفع كلاشنكوف اضافه إلى ثلاثة ملايين رصاصة ـ وتوفير الملابس الخاصة والدروع للقوة الجديدة ـ إعادة بناء كافة الأجهزة الأمنية وإقالة 15 من قادتها واستبدالهم بآخرين موالين ـ إقالة 185 من ضباط الأمن الوطني لتنقية صفوف الجهاز من غير الموثوق في موالاتهم.
إلى جانب هذه المعلومات، كانت هناك مذكرة بخط الفريق عبد الرازق المجايدة (منسق الأجهزة الأمنية) كتبت على ورقة تحمل ختم ديوان الرئاسة، تحدثت عن مطالب موجهة إلى الأجهزة الأمنية وخاصة الأمن الوطني، تضمنت سبعة بنود، من بينها وضع خطة العمليات وفرز الـ15 ألف عنصر المرشحين للقوة الجديدة، وحصر كميات الأسلحة والذخائر المتوافرة.
في هذا الجو المسكون بالشكوك والهواجس، أصدرت وزارة الداخلية تصريحاً صحفياً في 6/2 الماضي، أعربت فيه عن استنكارها وإدانتها للطريقة التي يتم من خلالها إدخال السيارات والمعدات اللوجستية من المعابر الحدودية بصورة سرية وبتعتيم مريب، على نحو يتم فيه تجاوز الحكومة ووزارتها المختصة. وذكر البيان أن وزارة الداخلية تحمل الجهات التي تقف وراء هذه العملية كامل المسؤولية عن أية تداعيات تنجم عن هذا الأسلوب المرفوض وطنياً وقانونياً.
(3)
يوم 6/6 نشرت صحيفة "هاآرتس" أن جهات في حركة فتح توجهت أخيراً إلى المؤسسة الأمنية في "إسرائيل" طالبة السماح للحركة بإدخال كميات كبيرة من العتاد العسكري والذخيرة من إحدى دول الجوار إلى غزة، لمساعدة الحركة في معركتها ضد حركة حماس. وأضافت الصحيفة أن قائمة الأسلحة والوسائل القتالية تشمل عشرات الآليات المصفحة والمئات من القذائف المضادة للدبابات من نوع "آر.بى.جى"، وآلاف القنابل اليدوية وملايين الرصاصات. كما ذكرت أن مسؤولي فتح تقدموا بطلباتهم في لقاءات مباشرة مع مسؤولين إسرائيليين، كما أن المنسق الأمني الأمريكي الخاص في المناطق الفلسطينية المحتلة الجنرال كيث دايتون نقل طلباً مماثلاً إلى "إسرائيل".
وأضافت الصحيفة أن "إسرائيل" سمحت لفتح في السابق بتلقي كميات من الأسلحة شملت 2500 بندقية وملايين الرصاصات.. وقد تقرر إدخال الآليات المصفحة التي لا تعتبر سلاحاً يشكل خطراً على الدولة العبرية. لكنها استبعدت الموافقة على طلب تلقي قذائف صاروخية، لخشيتها في أن تقع بيد حماس.
نقلت الصحيفة عن الرئيس أبو مازن قوله في أحاديث مغلقة إن أمله خاب من رفض "إسرائيل" السماح بإدخال الأسلحة المطلوبة لفتح، وأضافت أن ثمة خلافاً في الرأي داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بخصوص الموضوع، خصوصاً أن غالبية خبراء جهاز الأمن العام (شاباك) ومكتب تنسيق شؤون الاحتلال يعتقدون أن فتح ضعيفة للغاية في القطاع، وقد تنهار في المواجهة مع حماس، رغم الجهد الذي يبذله النائب محمد دحلان لتشكيل وتعزيز قوة مسلحة جديدة لفتح، تسمى القوة التنفيذية، رداً على تنفيذية حماس.
في 13/6 ذكرت صحيفة معاريف، نقلاً عن مصادر في الأجهزة الأمنية، أن سقوط مواقع الأمن التابعة للسلطة في أيدي حماس، يدلل على خطأ الرأي القائل بوجوب تقديم الدعم العسكري لحركة فتح، لأن ذلك السلاح سيعد غنيمة تقع بأيدى حماس، وهو الرأي الذي تبناه "أفرايم سنيه" نائب وزير الدفاع، الذي طالما ضغط على وزير الدفاع للسماح لفتح بتلقي رشاشات ثقيلة لتعزيز موقفها في مواجهة حماس. وأضافت معاريف أن جميع قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية يرغبون في انتصار فتح، إلا أنهم يرون أنه من الخطأ عدم التحوط لنتائج انتصار حماس.
(4)
يوم الجمعة 15/6، وهو اليوم التالي مباشرة لاستيلاء حماس على مواقع الأجهزة الأمنية في غزة، ذكرت النسخة العبرية لموقع هاآرتس على موقعها على شبكة الإنترنت أن كلاً من الإدارة الأمريكية والرئيس الفلسطيني محمود عباس اتفقا على خطة عمل محددة لإسقاط حكم حماس، عن طريق إيجاد الظروف التي تدفع الجمهور الفلسطيني في قطاع غزة لثورة ضد الحركة. وأشارت الصحيفة إلى أن خطة العمل، التي تم التوصل إليها بين "الجانبين" تضمنت الخطوات الآتية:
1- حل حكومة الوحدة، وإعلان حالة الطوارئ، لنزع الشرعية عن كل مؤسسات الحكم التي تسيطر عليها حماس حالياً في قطاع غزة.
2- فصل غزة عن الضفة الغربية والتعامل مع القطاع كمشكلة منفردة، بحيث تقوم الإدارة الأمريكية وعباس بالتشاور مع "إسرائيل" والقوى الإقليمية والاتحاد الأوروبي لعلاج هذه المشكلة، ولا تستبعد الخطة أن يتم إرسال قوات دولية إلى القطاع.
3- تقوم "إسرائيل" بالإفراج عن عوائد الضرائب، وتحويلها إلى عباس الذي يتولى استثمارها في زيادة "رفاهية" الفلسطينيين في الضفة، إلى جانب محاولة الولايات المتحدة إقناع "إسرائيل" بتحسين ظروف الأهالي في الضفة لكي يشعر الفلسطينيون في قطاع غزة بأن أوضاعهم لم تزدد إلا سوءاً في ظل سيطرة حركة حماس على القطاع، الأمر الذي يزيد من فرصة تململ الجمهور الفلسطيني في القطاع ضد حماس، وبالتالي التمرد عليها.
4- اتفق عباس والإدارة الأمريكية على وجوب شن حملات اعتقال ضد نشطاء حماس في الضفة الغربية، من أجل ضمان عدم نقل ما جرى في القطاع إلى الضفة.
5- إحياء المسار التفاوضي بين "إسرائيل" والحكومة التي سيعينها عباس في أعقاب قراره حل حكومة الوحدة الوطنية.
أشارت الصحيفة إلى أن أبو مازن حرص على إطلاع مصر والأردن على القرارات التي توصل إليها قبل إعلانها، مشيرة إلى أن أبو مازن طالب الدولتين بتأييد قراراته وقطع أي اتصال مع حكومة حماس في القطاع.
في الوقت ذاته، خرج كبار المسؤولين في "إسرائيل" عن طورهم وهم يشيدون بقرار أبو مازن حل الحكومة وإعلانه الطوارئ، فقال وزير الحرب الإسرائيلى عمير بيرتس وزير الحرب ـ قبل تعيين باراك مكانه ـ إن ذلك القرار ساهم في تقليص الآثار السلبية جداً لسيطرة حماس على القطاع، واعتبر أن الخطوة تمثل مصلحة استراتيجية عليا ل"إسرائيل".
من ناحية أخرى ذكرت صحيفة "معاريف" في عدد الجمعة 15/6، أنه في ظل قرار أبو مازن حل حكومة الوحدة الوطنية، فإن "إسرائيل" تدرس بإيجابية إمكانية الإفراج عن مستحقات الضرائب التي تحتجزها، لكى تحولها إلى الحكومة الجديدة. وأشارت الصحيفة إلى أن "إسرائيل" قد تعلن عن قطاع غزة ككيان عدو، ومن غير المستبعد أن يتم قطع الكهرباء والماء عن القطاع، خصوصاً إذا استمر إطلاق الصواريخ منه.
على صعيد آخر قالت "إسرائيل" إنها تراهن بقوة على تعاون الدول العربية، ورئاسة السلطة الفلسطينية معها في عدم السماح لحركة حماس بترجمة إنجازاتها العسكرية إلى مكاسب سياسية، معتبرة أن التطورات الأخيرة تحمل في طياتها تحولات إقليمية بالغة الخطورة على "إسرائيل". وقال الجنرال عاموس جلعاد مدير الدائرة السياسية الأمنية في وزارة الدفاع الإسرائيلي والمسؤول عن بلورة السياسة الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية وقطاع غزة إن "إسرائيل" تحتاج أكثر من أي وقت مضى لمساعدة الدول العربية، وتحديداً مصر في مواصلة خنق حركة حماس، سيما بعد إنجازها السيطرة على كامل قطاع غزة، معتبراً أنه في حال لم يتم نزع الشرعية عن وجود حركة حماس في الحكم، فإن هذا ستكون له تداعيات سلبية جداً على "إسرائيل". وفي مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية ظهر الجمعة 15/6، عدد جلعاد مطالب "إسرائيل" من الدول العربية بشأن إحكام الخناق على حركة حماس، معتبراً أن الدول العربية "المعتدلة" مطالبة بنزع أي شرعية عربية أو دولية عن حكومة الوحدة الوطنية وعدم إجراء أي اتصالات معها، وأن الحصار العربي لحكومة الوحدة الوطنية هو مطلب أساسي وحيوي لنجاح الحصار على الحكومة الفلسطينية. وحذر جلعاد من أنه في حال لم تقدم الدول العربية على هذه الخطوة، فإن الكثير من دول العالم ستعترف بوجود حماس في الحكم وستستأنف ضخ المساعدات للفلسطينيين.
أضاف الرجل أن أبو مازن أصبح مهماً للغاية ل"إسرائيل" الآن، إذ هو وحده الذي يستطيع تقليص الآثار السلبية لسيطرة حماس على غزة. غير أن بنيامين إليعازر وزير البنى التحتية قال في تصريحات للإذاعة إن على "إسرائيل" أن تتحوط للوضع الدراماتيكي الجديد بكل حذر. وشدد على وجوب بذل كل جهد ممكن لإقناع الدول العربية بالوقوف إلى جانبها في حربها ضد حماس. في ذات الوقت أشار عوديد جرانوت معلق الشؤون العربية في القناة الأولى للتليفزيون الإسرائيلي ظهر الجمعة إلى أن قرار أبو مازن بحل حكومة الوحدة الوطنية يمثل مصلحة ل"إسرائيل" من حيث إنه يعنى إسدال الستار على اتفاق مكة..
هل فهمت ما فهمته أنا؟


شبح حماسستان: يجب فعل المزيد من أجل مواجهة انتصارات الإسلاميين في غزة

يرى دنيس روس في هذا المقال أن هناك مصلحة غربية عربية مشتركة للاصطفاف حول حركة فتح في محاولتها إعادة تنظيم صفوفها لمواجهة حركة حماس. وإلا فإن الإسلاميين سوف يتولون ملف القضية الفلسطينية وعندها لن يكون بالإمكان حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بإنشاء دولتين، ولا حتى ثلاث.

العنوان الأصلي: The Specter of 'Hamastan': More Must be Done to Counter Islamist Gains in Gaza
الكاتب: دنيس روس
المصدر: صحيفة واشنطن بوست
التاريخ: 4 حزيران/ يونيو 2007
ترجمة: الزيتونة
خلال عدة أيام من النقاشات التي حضرتها في رام الله والقدس مؤخراً، فوجئت بطبيعة النقاش الذي شهدته في المدينتين، إذ لم يدر النقاش حول الطريق المسدود الذي وصلت إليه العملية السلمية، ولا حول المبادرة العربية للسلام، بل كان حول الصراع الذي يدور في غزة بين المنظمتين الفلسطينيتين، فتح وحماس، وما إذا كان قطاع غزة قد أصبح بالفعل بيد الإسلاميين. فقد كان الإسرائيليون والفلسطينيون على حد سواء يتساءلون عن عواقب تحوّل غزة إلى ما يسمونه بمصطلحهم "حماس ستان".
لم يكن الجميع متفقين أن قطاع غزة قد أصبح بشكل كامل بيد حماس، فبعض الإسرائيليين يرون أن إسرائيل يجب أن تسمح بدخول السلاح والذخيرة لكي تتزود بها فتح في مواجهتها مع حماس، كما سمعت أيضاً من الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء بأنه يمكن لمصر أن تفعل أكثر مما تفعله بكثير من أجل منع حماس من تلقي الأسلحة والأموال المهربة من الأنفاق المحفورة التي تصل سيناء بغزة.
ولكنني سمعت أيضاً من الفلسطينيين والإسرائيليين الذين يتبنّون وجهة النظر المعارضة لهذا الطرح، بأنه في هذه المرحلة لن يكون لتزويد فتح بالسلاح أي تأثير، إذ يجمع هذا الفريق على أن حماس قد حسمت أمرها باتجاه مهاجمة كل المسؤولين الأساسيين في الأجهزة الأمنية التي تتولى زمامها حركة فتح في قطاع غزة، وبأن فتح حالياً لم تعد تسيطر إلا على مواقع قيادية ضئيلة في هذه الأجهزة هذا لو سلمنا بالأصل أنه ما زال لها أي سيطرة على هذه الأجهزة الأمنية.
كل الذين تحدثت معهم كانوا في غاية القلق من العواقب التي ستترتب على تحول غزة إلى "كانتون" إسلامي؛ ورأوا أن هذا الأمر سوف يشكل مصدر إلهام لكل الإسلاميين في الشرق الأوسط، ويوفر ملاذاً جديداً للإسلاميين من جميع الأطياف. ويتخوفون أيضاً من أن يؤدي هذا الأمر لوضع نهاية حتى لإمكانية الحل القائم على إنشاء دولتين خاصة وأن معظمهم مقتنع بأن حماس لن تقبل السلام مع إسرائيل.
ومن المثير للاهتمام ما رأيته من إجماع بين الفلسطينيين والإسرائيليين الذين شاركوا في النقاشات، حول مخاطر تحول غزة إلى دولة منهارة. لم يكن أي طرف يرى أنه من السهل عزل القطاع واحتواءه، كما لم يكن لدى أي طرف أي فكرة حول كيفية الاستجابة لمثل هذه التطورات. فالإسرائيليون أعلنوا صراحة أنهم لا يريدون العودة إلى القطاع ذي الكثافة السكانية العالية، الذي يصفه أحد الإسرائيليين بعبارة "بغدادنا" حيث كل الناس تقريباً يمتلكون أسلحة سوف يحملونها في وجه إسرائيل؛ إلا أن قلة من الإسرائيليين يمكنها أن تتهاون بشأن الصواريخ التي تطلق من غزة، وهم يرون أنه في حال لم تقُم مصر بدور أكبر في منع تهريب السلاح فإن على إسرائيل أن تعيد احتلال المناطق المحاذية للحدود المصرية لتوقف تهريب الأسلحة.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فإنهم يرون أنه من الضروري أن لا تحقق حركة حماس في الضفة الغربية النجاح الذي حققته في قطاع غزة. والدافع الأكبر وراء ما خلص إليه الفلسطينيون المشاركون في النقاشات هو خوفهم، الذي ربما يكون كبيراً بما فيه الكفاية ليجعلهم يتعالون على الخصومات الشخصية والداخلية التي أنهكت حركة فتح وأعاقتها في منافستها لحركة حماس. وقد وجدت بالتأكيد استعداداً جديداً ضمن الحرس الجديد في حركة فتح وناشطي الحركة الذين يمثلون الجيل الثالث والرابع، لإعادة تنظيم أنفسهم من أجل إعادة اللحمة إلى فتح. فهم يعلمون أن الحركة قد خسرت الانتخابات بسبب الانقسامات التي تعاني منها والفساد المستشري في الحرس القديم، وعدم قدرتهم على الاستجابة لمتطلبات الشعب الفلسطيني. وقد رأيت وعياً جديداً بأن فتح يجب أن تقدم الخدمات والبرامج وليس فقط الكلمات، إذا ما أرادت أن تظل ممسكة بالوضع في الضفة الغربية.
وسمعت من هؤلاء الفلسطينيين طرحاً مثيراً للاهتمام، يتطلعون من خلاله إلى جعل الضفة الغربية مثالاً ناجحاً في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية، يرفعونه في وجه الفشل الذي يعاني منه قطاع غزة، حيث تبلغ نسبة البطالة ما يقارب السبعين بالمائة. ويقولون: فلتتولى حماس شؤون الدولة التي تعاني من الشلل وغياب القانون والنظام ولنبن نحن دولتنا، ولنتوصل إلى تفاهم مع الأردن وإسرائيل، على الأقل من أجل التوصل إلى كونفدرالية اقتصادية وأمنية. وإذا ما بقيت حماس صامدة في غزة فربما يكون هناك حل قائم على "إنشاء ثلاث دول".
يبدو الأمر جيداً من الناحية النظرية، ولكنني أشك بأن الأمر يمكن تنفيذه من الناحية العملية، فمهما كانت الكونفدرالية بين الدولة الفلسطينية والأردن معقولة، على الأقل من الناحية الاقتصادية، فإن بقاء قطاع غزة على ما هو عليه سوف يجعل منه مصدراً دائماً لعدم الاستقرار. ولن يكون سهلاً على إسرائيل أن تحتل مساحة ضيقة من الأرض من أجل وضع حد للتهريب. ومن ناحية أخرى، فإن الوجود الإسرائيلي سوف يكون مدعاة لاندلاع أعمال عدائية ضد الإسرائيليين شبيهة بما واجهه الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان. وليس هناك قوة دولية قادرة على أن تقوم بدور فعال للحؤول دون شنّ مثل هذه الاعتداءات، والجنوب اللبناني خير مثال على ذلك.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه على الرغم من أن الفلسطينيين منقسمون على أنفسهم إلا أنهم ما زالوا يحملون هوية فلسطينية مشتركة، وأي محاولة لإقامة دولة فلسطينية دون أن تشمل قطاع غزة سوف تقابل بالاستياء والرفض.

إذن، ما الذي يمكن القيام به؟
إذا كانت الدولة الفاشلة في قطاع غزة غير مقبولة، فإنه يمكن فعل الكثير حالياً من أجل الحؤول دون استمرار هذا الوضع. فمصر، التي تعهدت بأن توقف تهريب الأسلحة، ما زالت حتى الآن لا ترى أن الأمر يشكل تهديداً على أمنها القومي، ولذلك، يجب أن نسلط الأضواء على هذا الموضوع من أجل إحداث تغيير في الحسابات المصرية، على الأقل من أجل تحريك مصر باتجاه منع حماس من تكديس المزيد من الأسلحة والأموال. وإذا كانت فتح تمتلك خطة من أجل تعزيز قواتها في غزة، فإن مثل هذه الخطة جديرة بأن ندعمه من خلال التنسيق بين مع المصريين والإسرائيليين، ليس من أجل إنتاج حمام دم في غزة، بل من أجل ردع حماس عن محاولتها فرض نفسها هناك بالقوة.
ويقتضي المنطق أن يكون هناك جهات مانحة (خاصة وعامة) تعمل مع حركة فتح وتدعمها في إطار سعيها لإعادة توحيد صفوفها في الضفة الغربية وقطاع غزة. ما فعلته حماس في القطاع كان جرس إنذار لفتح وللفلسطينيين المستقلين. وقد أصبح هؤلاء اليوم بحاجة إلى الدخول في المنافسة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويحتاجون إلى المساعدة في هذا الإطار. وقد حان الوقت بالنسبة لنا ولغيرنا من الدول المانحة وللسعودية ودول الخليج أن تستيقظ على الحقيقة المرة بأننا إذا لم نساعد فتح على إعادة تنظيم صفوفها فإننا سوف نواجه مستقبلاً يسيطر فيه الإسلاميون على القضية الفلسطينية، حينها لن يكون الحل القائم على دولتين أو حتى ثلاث دول من ضمن أوراق المساومة.

آفاق استراتيجية - العدد 18 - حزيران/يونيو 2007

ملخص
التقرير الاستراتيجي الفلسطيني
لسنة 2006
اصدار
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
بيروت – لبنان
ملخص
التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2006
الصادر عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات

معلومات النشر:
العنوان: التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنة 2006
تحرير: د. محسن محمد صالح
الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات – بيروت
توزيع: الدار العربية للعلوم – بيروت، النيل والفرات دوت كوم
عدد الصفحات: 330 صفحة
تاريخ الصدور: يونيو 2007


مقدمة:
يصدر التقرير الاستراتيجي الفلسطيني سنوياً عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات – بيروت. وهو مركز دراسات مستقل، يهتم بالدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، ويولي تركيزاً خاصاً على الشأن الفلسطيني. وللمركز هيئة استشارية من كبار الباحثين والخبراء.
ويعالج التقرير الاستراتيجي، الذي قام بتحريره د. محسن محمد صالح (الأستاذ المشارك في الدراسات الفلسطينية والمدير العام للمركز) القضية الفلسطينية خلال سنة 2006 بالرصد والاستقراء والتحليل. ويدرس الأوضاع الفلسطينية الداخلية، والمؤشرات السكانية والاقتصادية الفلسطينية، والأرض والمقدسات، ويناقش العلاقات الفلسطينية العربية والإسلامية والدولية، كما يناقش الوضع الإسرائيلي وعمليات المقاومة ومسار التسوية. والتقرير موثق علمياً ومدعّم بعشرات الجداول والإحصائيات والرسوم التوضيحية. وقد جاء تقرير هذا العام في 330 صفحة.
وقد شارك في كتابة التقرير مجموعة من المتخصصين هم د.بشير نافع، ود.محسن صالح، وأ.د.حسن نافعة، وأ.د.أحمد سعيد نوفل، وأ.د.عبد الله الأحسن، ود.محمد نور الدين، ود.طلال عتريسي، وأ.د.وليد عبد الحي، وأ.د.إبراهيم أبو جابر، وأ.عبد الله نجار، ود.أحمد مشعل. وقد شارك في مراجعة التقرير أ.د.أنيس صايغ وأ.د.عبد الوهاب المسيري، والأستاذ منير شفيق.

الوضع الداخلي: سنة التغيير والحصار:
1. افتتح عام 2006 على الصعيد الفلسطيني الداخلي بمفاجأة نتائج الانتخابات البرلمانية، التي أعطت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" فوزاً كبيراً في مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني(74مقعداً مقابل 45 مقعداً لفتح). وأعطت المقاومة من خلال ذلك، شرعية إضافية، هي شرعية صناديق الانتخاب. وقد وجّهت النتائج ضربة قاسية للسياسة الأمريكية – الإسرائيلية وحتى الأوروبية، التي تعدّ حماس خصوصاً، وفصائل المقاومة الأخرى عموماً منظمات إرهابية، وتعدّ المقاومة إرهاباً.
2. ولا شك أن نزاهة الانتخابات وحياد الأجهزة، يجب أن يُسجّلا في مصلحة الرئيس الفلسطيني محمود عباس. وعلى الرغم من أن النتائج شكلت صدمة بالغة لقيادة السلطة الفلسطينية، إلا أن عباس أعلن أنه لن يتردد في تكليف حماس تشكيل الحكومة الفلسطينية. وبذلك دخل الوضع الفلسطيني السياسي مرحلة جديدة، حيث فرضت حماس نفسها شريكاً مع فتح في السلطة. وأكدت نهاية تفرد فتح في قيادة الشأن الوطني الفلسطيني.
3. كان خيار حماس الأول تشكيل حكومة وحدة وطنية، تضم فتح والقوائم والتنظيمات الفلسطينية الأخرى.، لكنها لم تنجح في ذلك طوال 2006، وربما يمكن القول أن الأطراف الفلسطينية التي أسهمت في إفشال جهود تشكيل حكومة الوحدة تتحمل مسؤولية تاريخية كبيرة. ففي مرحلة تغيير انتقالية بالغة الحساسية، وفي مواجهة الأعباء الثقيلة للقضية الوطنية، لم يكن هناك مفر من حكومة وحدة.
4. سعت قيادة السلطة وحركة فتح إلى اتخاذ عدد من القرارات والتعديلات التي استهدفت تعزيز سلطات الرئيس وإضعاف الحكومة والمجلس المنتخب، فقام ممثلو فتح في آخر جلسة للمجلس التشريعي السابق بأعطاء الرئيس سلطة مطلقة في تشكيل المحكمة الدستورية، وعلى ديوان الموظفين. وأصدر الرئيس مراسيم يضع فيها الأجهزة الإعلامية التابعة للسلطة تحت الإشراف المباشر للرئيس. وعلى الصعيد الأمني، أصدر مرسوماً بتأسيس هيئة خاصة لإدارة المعابر الحدودية ووضع معبر رفح تحت سيطرة أمن الرئاسة، ومرسوماً آخر بتعيين رشيد أبو شباك، مديراً للأمن الداخلي، مشرفاً على الأمن الوقائي والدفاع المدني والشرطة، وهي الأجهزة التي كانت سابقاً تتبع وزارة الداخلية؛ كما عُيِّن سليمان حلس مديراً لجهاز الأمن الوطني .وهو ما فسرته حماس بأنه محاولة إسقاط وإفشال لحكومتها حتى قبل أن تبدأ عملها. كما اشتكت الحكومة بمرارة من عدم تعاون الكثير من المسؤولين التنفيذيين الموالين للرئاسة أو لفتح.
5. ليس ثمة من شك في أن الأزمة التي عاشها الوضع الفلسطيني الداخلي كانت في جذورها أزمة سياسية، أزمة الرفض الإسرائيلي – الأمريكي للتحول الديموقراطي الذي شهدته الساحة الفلسطينية، وأزمة رفض أركان السلطة الفلسطينية السابقة التخلي عن الحكم والسيطرة على القرار الفلسطيني للحكومة الجديدة التي تقودها حماس. هذا، فضلاً عن الاختلاف على الخط السياسي بين حماس وفتح. وفي ظل هذه الأزمة، تصاعد الحصار الدولي على الحكومة والشعب الفلسطيني.
6. كان الانفلات الأمني، وتكرار الصدامات المسلحة بين القوى التابعة لحماس والأخرى التابعة للرئيس أو المحسوبة على أجنحة معينة في حركة فتح، هو أكثر مظاهر الأزمة استفزازاً لمشاعر الفلسطينيين. فقد قتل نتيجة الفلتان الأمني 322 فلسطينياً في الفترة 1/1 - 30/11/2006، منهم 236 في قطاع غزة و86 في الضفة الغربية، مقارنة بـ 176 فلسطينياً قتلوا طوال سنة 2005.
7. أكدت تطورات أحداث 2006 أن دافع حماس من وراء المشاركة في الانتخابات، تجنباً لضربة عسكرية واسعة، وحماية لبرنامج المقاومة وإعطائه الشرعية، كان حقيقياً وواقعياً. غير أن حماس ربما لم تدرك الحجم الهائل من الضغوط والتحديات التي ستواجهها، عند مشاركتها في قيادة السلطة، أو عند محاولتها تنفيذ برنامجها في الإصلاح والتغيير.
8. كانت قيادة السلطة الفلسطينية منذ تأسيس السلطة في 1994 قد عملت فعلياً وضمنياً على تهميش المنظمة وإهمالها، ربما في تحضير للرأي العام الفلسطيني للاتفاق النهائي حول القضية الفلسطينية. وكان ذلك التهميش في جوهره تخلصاً من الشتات، بلاجئيه وفصائله. ولكن ما إن أعلنت نتيجة الانتخابات التشريعية، حتى سارعت قيادة السلطة إلى اللجوء لشرعية المنظمة من جديد، حيث سعت، من ناحية، إلى توكيد عزل حكومة حماس عن ملف المفاوضات، ومن ناحية أخرى، إلى فرض البرنامج السياسي للمنظمة على الحكومة. ولكنها من حيث لم تقصد، ربما، ضاعفت من أهمية التوجه الفلسطيني المتسع إلى إعادة بناء المنظمة وإعادة الحيوية لأجهزتها .
9. وبالرغم من أن اتفاق مكة قد وفر فرصة كبيرة لإعادة التوافق الفلسطيني الداخلي وتشكيل حكومة وحدة وطنية، فإن استحقاقات فوز حماس في الانتخابات ومشاركتها القوية في سلطة الحكم الذاتي، يفرض استحقاقات تتجاوز تشكيل حكومة الوحدة. من هذه الاستحقاقات، ضرورة إدراك خطورة اعتماد السلطة الفلسطينية على المساعدات الأمريكية - الأوروبية، مما يعني الارتهان للإرادة الإسرائيلية. فهذا الارتهان يشكل خطراً على كامل القضية الفلسطينية، ولذلك فإن تحرير الإرادة الفلسطينية من هذا الارتهان، والعودة إلى الدعم العربي والإسلامي الرسمي الشعبي، يجب أن يكون من أولوية أولويات العمل الوطني. ومن هذه الاستحقاقات، إعادة بناء هيكل سلطة الحكم الذاتي على أساس وطني، بمعنى التخلص من الطبيعة السياسية الفئوية لأجهزة الأمن وللبيروقراطية الفلسطينية، التي جعلت مؤسسات السلطة وكأنها امتداد لحركة فتح. والأهم من ذلك هو بدء العمل الفعلي لإعادة بناء منظمة التحرير وتفعيلها، وجعلها أكثر تمثيلاً لحقيقة الاتجاهات السياسية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني ككل. وأخيراً، ضرورة التوصل إلى برنامج مقاومة وطني.

المشهد الإسرائيلي الفلسطيني: سنة الارتباك وخلط الأوراق:
10. من الناحية الاستراتيجية، تميزت سنة 2006 اسرائيلياً بإعادة تشكيل الخريطة السياسية الحزبية، وبتراجع خيار الانسحاب الأحادي الجانب، وبالفشل النسبي في إدارة الملفات الأمنية والعسكرية.
11. لقد كانت سنة "ارتباك" و"أوراق مختلطة" بالنسبة للإسرائيليين، فقد بدأوا سنة 2006 بآمال كبيرة في القدرة على فرض تصوراتهم الخاصة بالتسوية على الفلسطينيين، وتنفيذ مشروع الانسحاب أحادي الجانب. غير أن فوز حماس في الانتخابات، والفشل الإسرائيلي الذريع في الحرب على حزب الله ولبنان، قد أربك الإسرائيليين، وخلَط الأوراق، وأفقد القيادة الإسرائيلية القدرة على تحديد الاتجاهات، وأضعف شعبيتها؛ مما أدّى إلى تراجعها عن تنفيذ الانسحاب أحادي الجانب، وإلى إعادة النظر في خياراتها وأولوياتها.
12. شهدت الساحة السياسية الداخلية الإسرائيلية "غيبوبة" الجنرال أريل شارون، و"غيبة" الإرادة عن تنفيذ برنامج الانسحاب الأحادي الجانب، و"تغييب" أكبر وتراجع أكثر لدور الجنرالات في صناعة القرار السياسي الإسرائيلي، و"غياب" أوضح للقادة التاريخيين عن قيادة المشروع الصهيوني والدولة العبرية. وتزايد مظاهر الفساد في الأوساط السياسية، وتراجع الثقة في المؤسسات الحكومية والجيش. وهذا يعبر عن حالة من التأزم في المشروع الصهيوني.
13. التقت الأحزاب الإسرائيلية الرئيسية (بما فيها كاديما والعمل والليكود) في برامجها الانتخابية على معظم القضايا الحساسة المتعلقة بالتسوية:
 رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الأرض المحتلة سنة 1948 "إسرائيل".
 بقاء القدس الموحدة عاصمة أبدية لـ"إسرائيل".
 رفض الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة سنة 1967.
 إبقاء الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية.
 إتمام بناء الجدار الفاصل.
 رفض التفاوض مع السلطة الفلسطينية بقيادة حماس.
وعلى ذلك، فلا تنبغي المراهنة كثيراً على التغيرُّات في القيادة السياسية الاسرائيلية، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالقضايا المفصلية.
14. شهدت انتخابات الكنيست السابع عشر أقل نسبة عدد من المشاركين في الانتخابات في تاريخ "إسرائيل"، حيث بلغت 63.5%، وأعادت نتائج انتخابات تشكيل الخريطة السياسية الحزبية الإسرائيلية، فكانت صعوداًِ متوقعاً لكاديما الذي لم يتجاوز عمره ستة أشهر ، وهبوطاً مُدوِّياً لليكود الذي خسر نحو 70% من ناخبيه ومن مقاعده في الكنيست، وإعادة تموضع داخلي للعمل، واختفاءً لشينوي، وتصويتاً اجتماعياً فئوياً للمتقاعدين. وأظهرت الانتخابات في الوسط العربي شعبية كبيرة للقوائم العربية في المدن والبلدات العربية، غير أن الأحزاب الصهيونية حققت أغلبية كبيرة في الوسط الدرزي، وفي التجمعات البدوية في الشمال، وهو ما يستدعي وقفة تقييم ومراجعة.
15. شكل إيهود أولمرت الحكومة الحادية والثلاثين منذ إنشاء "إسرائيل" وحصلت على الثقة في 4/5/2006، وقد تضمن برنامج الحكومة سعيها إلى بلورة الحدود الدائمة لـ"إسرائيل" كدولة يهودية ديموقراطية، وأكدت أنه في غياب المفاوضات مع الفلسطينيين فإنها ستقوم بتحديد أراضي "إسرائيل"، كما أكدت الحرص على استكمال بناء الجدار العازل. وقد لاحقت الإخفاقات السياسية والعسكرية حكومة أولمرت، وضعفت شعبيتها، في الوقت الذي تصاعدت فيه شعبية التيارات اليمينية.
16. بلغ عدد سكان "إسرائيل" في نهاية سنة 2006 سبعة ملايين و114 ألفاً، بينهم خمسة ملايين و392 ألف يهودي أي نحو 75.8% من السكان. واستمرت معدلات الهجرة اليهودية إلى "إسرائيل" بالانخفاض، فهاجر 20,955 مهاجراً يهودياً جديداً فقط. كما تشير التقديرات إلى وجود 700–750 ألف إسرائيلي يعيشون خارج "إسرائيل". وتعيش "إسرائيل" هاجساً ديموغرافياً كبيراً مرتبطاً بنضوب مصادر الهجرة اليهودية، والتزايد السكاني الفلسطيني.
17. تشير الإحصاءات الرسمية الإسرائيلية إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي حقق نسبة نمو بلغت 5% سنة 2006 مقارنة بنسبة 5.2% حققها سنة 2005، وقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي إلى 140 ملياراً و472 مليون دولار سنة 2006، مقارنة 129 ملياراً و750 مليون دولار سنة 2005، بينما بلغ معدل دخل الفرد 19,900 دولار. ولا تزال أمريكا الداعم الأكبر والشريك التجاري الأول لإسرائيل. فقد تلقت "إسرائيل" سنة 2006 دعماً أمريكياً رسمياً بقيمة مليارين و630 مليون دولار. وخلال الفترة منذ سنة 1949 وحتى نهاية 2006 بلغ مجموع الدعم الأمريكي الرسمي لـ"إسرائيل" 96 ملياراً و766 مليون دولار.
18. في سنة 2006 تعرضت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى الاهتزاز بسبب الفشل الذريع في الحرب ضد حزب الله ولبنان، وما تلا ذلك من انكشاف التقصير في العديد من أنظمة القيادة والعمل واستخدامات الأسلحة، وتدمير سمعة دبابات الميركافا، فضلاً عن استقالة العديد من ضباط الجيش وقياداته. وقد بلغت النفقات العسكرية الإسرائيلية لسنة 2006 ما مجموعه11 ملياراً و356 مليون دولار، غير أن إيرادات مبيعات السلاح عادة ما تذهب إلى ميزانية الجيش الإسرائيلي دون ذكرها في ميزانية الحكومة، حيث بلغت مبيعات الأسلحة الإسرائيلية لسنة 2006 أربعة مليارات و400 مليون دولار.
19. الجيش الإسرائيلي العامل يبلغ مجموعه 176,500 عنصر، أما قوات الاحتياط فيبلغ عددها 445 ألفاً، وهناك أيضاً 7,650 من قوات حرس الحدود. وفي سنة 2006 كان الجيش الإسرائيلي يملك 3,890 دبابة، و845 طائرة مقاتلة، و291 طائرة هليوكبتر، ونحو 200 قنبلة نووية، ويمتلك ثلاث غواصات و15 سفينة حربية...وغيرها. كما استلم الدفعة الأولى من طائرات إف-16 أي (سوفا) (Sufa) F-16I واستلم سلاح الطيران دفعة من طائرات الهليوكبتر الأباتشي لونجبو (سراف) الهجومية. كما ستستلم البحرية غواصتين ألمانيتين من نوع دولفين Dolphin بإمكانهما التسلح بسلاح نووي.
20. حاولت "إسرائيل" منع مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية إلا بعد تطويعها ونزع أسلحتها، لكن حماس فرضت نفسها نضالياً وشعبياً بحيث لم يعد من الممكن تجاوزها. وأصيبت إسرائيل بصدمة وارتباك وبلبلة، نتيجة فوزحماس، إذ لم يكن لدى حكومتها سياسة واضحة، لا على المستوى التكتيكي ولا الاستراتيجي. ورأت "إسرائيل" في صعود حماس تحدياً استراتيجياً، ولاحظ خبراؤها بأن "العملية السلمية التي هدفت إلى تخليص السلطة الفلسطينية من الإرهاب هي نفسها التي أحضرت قادة الإرهاب إلى السلطة".
21. قررت "إسرائيل" مقاطعة الحكومة الفلسطينية التي ستشكلها حماس إلا إذا اعترفت بـ"إسرائيل"، ونبذت العنف و"الإرهاب"، ونزعت أسلحة المنظمات "الإرهابية"، ووافقت على الاتفاقات التي تم التوقيع عليها بين "إسرائيل" وبين م.ت.ف. والسلطة الفلسطينية. وقد أصبحت هذه المطالب هي المطالب نفسها تقريباً التي حددتها الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والأمم المتحدة) للتعامل مع الحكومة الفلسطينية. كما قررت تنفيذ حصار اقتصادي خانق ضد الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع. واستخدمت إمكاناتها كقوة احتلال في إغلاق الحدود البرية والبحرية والجوية الفلسطينية، ومنع نقل البضائع دون إذنها ومراقبتها وإشرافها. وتضمنت الإجراءات الإسرائيلية متابعة سياسة الاغتيالات، والسعي لإسقاط حماس بالقوة. وتؤكد هذه الإجراءات مدى النفوذ العالمي الذي لا يزال يتمتع به المشروع الصهيوني، تحت الرعاية الأمريكية؛ وتجاوزه لكافة المعايير والقيم، بغطاء دولي، عندما يتعلق الأمر بتحقيق مصالحه.
22. اتسمت سنة 2006 من ناحية العدوان الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، بتصاعد عمليات الاغتيال والاجتياحات الإسرائيلية خصوصاً ضد قطاع غزة، ودخول إسقاط حكومة حماس وإفشال تجربتها ضمن الأجندة العسكرية الإسرائيلية. واتسام معظم الفعل الفلسطيني المقاوم بالسلوك الدفاعي وردود الفعل ضد الاجتياحات والاعتداءات الإسرائيلية. وتضاعف اعتماد المقاومة على إطلاق الصواريخ، خصوصاً من قطاع غزة، فبلغت 1,700 صاروخاً سنة 2006، مقابل 400 صاروخ تم إطلاقها سنة 2005. غير أنه تم استفراغ الكثير من طاقات وإمكانات المقاومة الفلسطينية في الصراع الداخلي وخصوصاً بين فتح وحماس، وهو ما شوّه صورة المقاومة وأضعفها.
23. استشهد سنة 2006 ما مجموعه 692 فلسطينياً، منهم 556 في قطاع غزة، وتم تنفيذ 85 عملية اغتيال استشهد فيها 189 فلسطينياً، بينهم 134 مستهدفاً. وبلغ عدد القتلى الإسرائيليين سنة 2006 (من دون احتساب حرب لبنان) 32. واعترف الإسرائيليون بتعرضهم إلى 2,135 هجوماً سنة 2006 انطلق نصفها من قطاع غزة، كما نفذت المقاومة الفلسطينية أربع عمليات استشهادية فقط خلال سنة 2006. وقد اعترف جهاز الأمن الإسرائيلي "الشاباك" بأنه اعتقل سنة 2006 نحو 279 شخصاً، ادعى أنهم منفذون محتملون لعمليات استشهادية مقارنة مع 154 تم اعتقالهم للسبب نفسه سنة 2005. وادعى جهاز الأمن الإسرائيلي أنه تمكن من منع 71 عملية استشهادية، من بينها 45 حالة كان أصحابها قد وضعوا فيها الأحزمة الناسفة على أجسادهم. وهذا يؤكد أن جذوة المقاومة لا تزال راسخة في الشعب الفلسطيني، لكنها تحتاج إلى تفعيل وتوجيه.
24. كان الاعتقال أحد وسائل الاحتلال الإسرائيلي في كسر إرادة الشعب الفلسطيني وتطويعه، كما استخدمها كورقة مساومة في المفاوضات، فضلاً عن كونها أسلوباً معتاداً في مواجهة المقاومة وفصائلها. وحسب الإحصاءات الفلسطينية الرسمية كان في سجون الاحتلال 9,200 سجين في مطلع سنة 2006، ومع نهاية السنة نفسها كان يوجد في سجون الاحتلال 11 ألف سجين. وخلال سنة 2006 تم اعتقال 5,671 فلسطينياً، منهم 5,425 من الضفة الغربية و246 من قطاع غزة، بقي من مجموع هؤلاء في السجون نحو 2,500. وإثر عملية أسر الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط"، قام الإسرائيليون باعتقال عشرة من وزراء الحكومة الفلسطينية، بقي منهم في السجون حتى نهاية 2006 أربعة. ومع نهاية العام كان لا يزال في السجون 34 نائباً. ومن هؤلاء 24 نائباً اعتقلوا بعد أسر الجندي الإسرائيلي شاليط وجميعهم محسوبون على حماس.
25. يعترف الاستراتيجيون الإسرائيليون بأن معضلة "إسرائيل" تكمن في التوفيق بين الاستمرار في عملية الاحتلال، وبين السعي لإيجاد دولة يهودية تتمتع بأغلبية مريحة، ويُنبِّهون إلى أن عامل الوقت يسير ضد تحقيق هدف وجود "إسرائيل" كدولة يهودية ديموقراطية، كما يسير ضد مشروع الدولتين، حيث تشير التقديرات إلى أنه في سنة 2010 تقريباً سيتجاوز عددُ الفلسطينيين في حدود فلسطين التاريخية عددَ اليهود. وقد ينبني على ذلك "مخاطر" أن يتوقف الفلسطينيون عن المناداة بحلِّ الدولتين، ويعودون للمطالبة بالدولة الواحدة وبحقوقهم المدنية والسياسية، وبالسعي لإزالة النظام العنصري الإسرائيلي على طريقة نضال السود في جنوب أفريقيا، مما قد يفتح المجال، ولو من الناحية النظرية، لإنهاء الطبيعة اليهودية للدولة وفق قواعد واعتبارات قد يقبلها المجتمع الدولي.
26. وتواجه "إسرائيل" تحدياً استراتيجياً معقداً بسبب فشلها في فرض الحلول التي تريدها على الطرف الفلسطيني، وتصاعد قوة حماس وحزب الله والحركات الإسلامية في المنطقة، وتنامي مخاطر التهديد النووي الإيراني، وتصاعد قوة المقاومة في العراق وأفغانستان، وانتشار ما يسمى "الإرهاب" المعادي بشكل مطلق لـ"إسرائيل" وأمريكا.
27. مع بدء سنة 2006 كانت القناعات الإسرائيلية تتزايد بضرورة تجاوز مشروع "خريطة الطريق"، والاتجاه بشكل أكثر وضوحاً وحسماً نحو فرض الحل الأحادي الجانب، الذي أخذ يجد له أشكال دعم متفاوتة لدى مختلف التيارات الصهيونية المحسوبة على اليسار والوسط واليمين، وإن كان ذلك بديباجات مختلفة. وقد تسربت أنباء (أكدتها شواهد عدّة) أن "اسرائيل" تسعى إلى تنفيذ خطة سياسية بديلة عن خريطة الطريق، تستند على أساس أن تشرع "إسرائيل" والولايات المتحدة في مباحثات سرية للاتفاق على الحدود الشرقية لـ"إسرائيل"، حيث تتولى أمريكا دور الوصي أو الوكيل عن الفلسطينيين. على أن يتم الإعلان عن الاتفاق باعتباره إنجازاً أمريكياً تاريخياً، وباعتبار أمريكا الوحيدة التي نجحت في دفع "إسرائيل" للانسحاب من أكثر مناطق الضفة، أو السماح بإقامة دولة فلسطينية ذات امتداد جغرافي في الضفة. وبعد ذلك يتم السعي لتوفير دعم وغطاء دولي للاتفاق.
28. أصرَّ محمود عباس، على الرغم من فوز حماس في الانتخابات وتشكيلها الحكومة الفلسطينية، على إمكانية متابعة المفاوضات، لكن الإسرائيليين اتهموا عباس بالضعف وعدم القدرة على تنفيذ التزاماته. وحافظت "إسرائيل" على خيط اتصالها بعباس، ومنحته حرية الحركة، وراوحت بين محاولات تشجيعه أو الضغط عليه لإسقاط حكومة حماس، وإجراء انتخابات جديدة. كما عملت في الوقت نفسه على إثارة الفوضى والفلتان الأمني والصراع الفلسطيني، في الوقت الذي رفضت فيه الدخول في أية مفاوضات حقيقية.
29. في النصف الثاني من سنة 2006 بدأ الإحباط يَدبُّ بشكل سريع تجاه تنفيذ خطة الانطواء أو التجميع إثر فشل الهجوم على حزب الله ولبنان، وإثر تراجع شعبية أولمرت وحزب كاديما، والفشل في إسقاط حكومة حماس، وظهور قناعات بضرورة دعم محمود عباس ورئاسة السلطة، وظهور صعوبات عملية أمنية واقتصادية وقانونية عند دراسة تطبيقات الخطة على الأرض. وعلى الرغم من أن انتصار حماس في الانتخابات التشريعية وتشكيلها للحكومة قد عزز من فكرة عدم وجود شريك فلسطيني، في مشروع التسوية، وبالتالي زاد من مبررات الحل أحادي الجانب؛ إلا أن الانسحاب من مساحات واسعة من الضفة كان سيعدّ انتصاراً لحماس، وسيكون من الصعب جداً تسويقه.
30. لا يزال الإسرائيليون قادرين فقط على الحوار أو التفاوض مع أنفسهم، ولكنهم لا يملكون الإرادة ولا الجدية اللازمة للتفاوض مع الفلسطينيين أو العرب، حتى وفق قرارات "الشرعية الدولية". ويرتبط جوهر مشروع التسوية بالنسبة إليهم بحل مشكلة الإسرائيليين وليس الفلسطينيين، حيث لم يستوعب الوعي الإسرائيلي حتى هذه اللحظة أن الفلسطيني إنسان يستحق أن يمارس إنسانيته في العودة إلى أرضه والعيش فيها بحرية وكرامة، ويستحق أن يقرر مصيره في دولة كاملة السيادة.
31. اليمين والوسط واليسار الإسرائيلي يحاولون الهرب من الواقع بتقديم حلول غير واقعية، وهي فلسفة تميل إلى التحايل على الأزمة وليس إلى علاجها، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى اتساعها وتزايدها، لتحمل في طياتها المستقبلية مخاطر حقيقية على المشروع الصهيوني. وبالتالي فإن سنة 2007 لا تحمل ما يبعث على التفاؤل بحدوث اختراقات أو إنجازات حقيقية في مسار الأحداث، طالما أن العقلية الإسرائيلية السائدة هي نفسها، وتلجأ تقريباً إلى استخدام الأدوات والوسائل نفسها.




الحرب الإسرائيلية على لبنان وحزب الله:
32. اختلفت هذه الحرب عن كل حروب "إسرائيل" السابقة من زوايا عديدة: الأهداف التي سعت إليها، وطبيعة الخصم الذي واجهته، والفترة الزمنية التي استغرقتها الحرب، وكذلك النتائج والتداعيات التي ترتبت عليها محلياً وإقليمياً ودولياً.
33. كان من الواضح أن الإعداد لهذه الحرب كان يجري منذ شهورٍ طويلةٍ سبقت عملية حزب الله، وأن تنسيقاً أمريكياً إسرائيلياً بدأ قبل وقت طويل ، واستهدف وضع خطط مشتركة لتدمير البنية العسكرية لحزب الله، كمقدمة لتغيير قواعد اللعبة السياسية في منطقة الشرق الأوسط برمتها، وليس فقط على الساحة اللبنانية. وقد أقامت الولايات المتحدة حساباتها على أساس أن تحطيم حزب الله سيضعف النفوذ السوري في لبنان إلى الدرجة التي تدفعها لفك تحالفها مع إيران، وربما تقليص دعمها للمقاومة الفلسطينية أيضاً، والقبول في النهاية بشروط أكثر مرونة للتسوية مع "إسرائيل". فإذا ما نجحت الولايات المتحدة في تدمير برنامج إيران النووي، بالتوازي، فسيصبح الشرق الأوسط حينئذٍ مُهيأً برمَّتهِ لميلادٍ جديدٍ.
34. وحين بدأت "إسرائيل" عملياتها العسكرية أعلنت أنها تبغي تحقيق الأهداف التالية:
 تدمير البنية العسكرية لحزب الله ودفع ما تبقى من مقاتليه إلى ما وراء نهر الليطاني.
 مساعدة الدولة اللبنانية على فرض سيطرتها على كامل التراب اللبناني، بما يسمح للجيش اللبناني بنشر قواته في الجنوب، وإخلاء المنطقة من أي عناصر مسلحة أخرى أياً كانت.
 تمكين الحكومة اللبنانية من تنفيذ القرار 1559 الذي يتضمن نزع سلاح حزب الله وسلاح أي جماعات أو فصائل خارج نطاق سلطة الدولة، بما في ذلك سلاح الفصائل الفلسطينية.
35. قام سلاح الطيران بحوالي 15,500 طلعة جوية وقام الأسطول بتحركات قتالية نفذ خلالها 2,500 عملية قصف على أهداف ثابتة، وأحكم حصاره على ساحل لبنان طوال فترة الحرب. غير أن حزب الله كان ما يزال قادراً على ضرب العمق الإسرائيلي بمئات الصواريخ يومياً، حتى اللحظة الأخيرة للحرب، مما مثل أكبر دليل على أن "إسرائيل" لم تتمكن من تحقيق أهم أهدافها وهو تدمير بنيته العسكرية.
36. أدت الحرب إلى نزوح أكثر من 973 ألف شخص في لبنان، واستشهاد نحو 1100 لبناني، بينهم 400 طفل، وقدرت الخسائر المادية بثلاثة مليارات و612 مليون دولار. وبلغت الخسائر الاقتصادية الإسرائيلية نحو خمسة مليارات و227 مليون دولار، غير أن التداعيات الأمنية والاستراتيجية البعيدة المدى أهم بكثير من هذه الخسائر. فلأول مرة تجد "إسرائيل" نفسها، مضطرة للاستمرار في حرب طويلة على هذا النحو (33 يوماً)، ومع استمرارها كانت تتقلص وتتآكل الأهداف التي حددتها لنفسها في البداية، ولأول مرة ينجح الخصم في نقل المعركة إلى أراضيها هي، ويجبر أكثر من مليون إسرائيلي من العيش في رعب داخل الملاجئ أياماً طويلة.
37. سعت الولايات المتحدة إلى عرقلة أي محاولة لطلب انعقاد مجلس الأمن، ومنح "إسرائيل" كل ما تحتاجه من وقت لإنجاز أهدافها، كما حرصت على التأكد من أن أي قرار يتخذه مجلس الأمن، حين تصبح الظروف مهيأة لانعقاده، سيلبي كل الشروط الإسرائيلية والأمريكية. وقد جاء قرار مجلس الأمن رقم 1701 محصلةً لتفاعل موازين القوى العسكرية والسياسية للأطراف المشتبكة في الصراع على نحو مباشر أو غير مباشر. وكان إلقاء الولايات المتحدة بكل ثقلها السياسي وراء "إسرائيل"، قد مَكَّنَها من الحصول على مكاسب سياسية أكبر مما سمحت به موازين القوى على ساحة القتال. حيث يظهر من القراءة القانونية للقرار أنه منحاز بشكل واضح للموقف الإسرائيلي. غير أن قراءة سياسية مبنية على موازين القوى الفعلية على الأرض، تظهر أن أي تسوية وفق موازين القوى الراهنة، سوف تؤدي حتماً إلى مبادلة الأسرى الإسرائيليين بالأسرى اللبنانيين، وإلى عودة مزارع شبعا إلى السيادة اللبنانية، وهما المطلبان الرئيسيان لحزب الله.
38. وعلى الأرجح، سوف تصُبّ نتائج الحرب لصالح اليمين الإسرائيلي ، وهو ما من شأنه تعقيد فرص التوصل إلى تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي، وما قد يؤسس لحرب جديدة ليس ضد حزب الله أو لبنان هذه المرة، وإنما ربما ضد سوريا وإيران أيضاً.

القضية الفلسطينية والعالم العربي:
39. أوجد فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية لاعباً جديداً في الساحة الفلسطينية، يحمل رؤية نضالية وخطاباً سياسياً جديداً، لم تتعود الدول العربية التعامل معه من قبل. وقد قام وفد حماس بزيارات تفاوتت في مستويات نجاحها إلى مصر والسعودية واليمن والسودان وليبيا ودولة الإمارات العربية والبحرين والكويت وقطر وعُمان.
40. أشادت جامعة الدول العربية بالانتخابات التشريعية الفلسطينية، وبالنتائج التي أفرزتها‏، واعتبرتها نزيهة وشفافة. وطالبت بضرورة قبول واحترام نتائجها لأنها تعكس خيارات الشعب الفلسطيني وإرادته. غير أن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية لم توجه الدعوة الرسمية للحكومة الفلسطينية أو وزير خارجيتها للمشاركة في القمة العربية، بينما وجهت الدعوة لرئاسة السلطة الفلسطينية، والتي لم تشرك أحداً من حماس في وفدها المشارك في القمة.
41. أكدت القمة العربية على تمسكها بالمبادرة العربية للسلام، وأشاد الملوك والرؤساء العرب، بالممارسة الديموقراطية في فلسطين ونزاهة الانتخابات التشريعية وشفافيتها. وأعربوا عن تأييدهم التام للسلطة الوطنية الفلسطينية وقياداتها ومؤسساتها في سعيها للحفاظ على الوحدة الوطنية، وطالبوا المجتمع الدولي باحترام إرادة الشعب الفلسطيني في اختيار قيادته، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، ورفض الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب.
42. تعاملت مصر بنوع من البرود مع الحكومة الفلسطينية، آخذة في الاعتبار الخلفيات الإخوانية لحماس، والتزاماتها في السلام مع "اسرائيل". غير أنها لعبت دوراً نشطاً في التوفيق بين فتح وحماس، ومنع الاقتتال الداخلي، وضبط الفلتان الأمني.
43. قدمت سورية دعماً قوياً لحماس ولحكومتها، وعدّت انتصار حماس دعماً لخطِّها السياسي، ولدورها في الصراع العربي الإسرائيلي، كما قوى موقفها في مواجهة الضغوط الأمريكية.
44. شاب العلاقات الأردنية مع حماس وحكومتها الكثير من الحساسية، التي تصاعدت في ربيع 2006 إلى درجة العداء واتهام الحكومة الأردنية لحماس بتهريب السلاح واستهداف أمن الأردن، وهو ما نفته حماس؛ غير أن العلاقة اتجهت إلى التهدئة، والسعي للوصول إلى تفاهمات مشتركة مع نهاية العام. وفي الوقت نفسه حافظت الأردن على علاقاتها المتينة مع رئاسة السلطة.
45. استمرت السعودية في دورها الكبير الداعم للشعب الفلسطيني وفي التخفيف عن معاناته، وحرصت على لعب دور متوازن بين رئاسة السلطة وبين حكومتها. وتزايد دورها مع نهاية السنة في التوفيق بين فتح وحماس، والسعي لتشكيل حكومة وحدة وطنية؛ وهو ما تكلل في النهاية باتفاق مكة في فبراير 2007.
46. لم تنجح الدول العربية في فك الحصار المضروب على الشعب الفلسطيني، ولم تبذل جهوداً جادة لكسره، وتعامل بعضها بحذر وعداء أحياناً مع حماس. ولا زال الضعف والتفكك العربي يعكس نفسه بشكل سلبي على الوضع الفلسطيني، ويوفر هوامش أوسع للجانب الإسرائيلي لفرض برامجه وتصوراته. وإذا كان الجرح النازف في العراق قد أسهم في تراجع الحالة العربية وتشتيتها، لكن المقاومة العراقية القوية، والمستنقع الذي وجد الأمريكان أنفسهم فيه، قد زاد من آمال الفلسطينيين في إضعاف الهيمنة الأمريكية في المنطقة وإفشال مخططاتها التي تخدم المشروع الصهيوني في المنطقة.
47. وعلى الرغم من أن بعض الدول العربية استمرت في علاقاتها السياسية والاقتصادية مع "إسرائيل"، إلا أن الأغلبية العربية الشعبية لا تزال ترفض التطبيع وتقاطعه. ولذلك ظل التبادل التجاري والثقافي أدنى بكثيرمما يخطط له ويأمله الإسرائيليون. انظر الجدول التالي حول الصادرات والواردات الإسرائيلية مع بعض الدول العربية (بالمليون دولار):

البلد الأردن مصر المغرب
الصادرات الإسرائيلية 2006 136.8 125.8 11.1
2005 116.2 93.8 11.8

الواردات الإسرائيلية 2006 38.3 77.1 1.7
2005 60.9 49.1 1.4



القضية الفلسطينية والعالم الإسلامي:
48. لا يبدو أن سجل منظمة المؤتمر الإسلامي الحافل بالبيانات والتصريحات، والمفتقر إلى العمل والإنجازات قد اختلف في سنة 2006 عنه في السنوات السابقة. غير أن الأمين العام الجديد للمنظمة أكمل الدين إحسان أوغلو، قد حاول أن يكون أكثر فاعلية ونشاطاً ضمن صلاحياته المحدودة، وضمن منظمة يتقاذف أعضاءها الـ 57 الكثير من الخلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث تصبح القواسم المشتركة التي يمكن أن تحركها قليلة، وفارغة المحتوى في كثير من الأحيان.
49. أما تركيا فقد استمرت في علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية المميزة مع "إسرائيل". ولم تفلح حكومة حزب العدالة والتنمية، على الرغم مما تتمتع به من شعبية واسعة وأغلبية برلمانية كبيرة، من إحداث تغييرات ملموسة في العلاقة مع "إسرائيل"، في ظل النفوذ الراسخ للجيش والقوى العلمانية المؤيدة لاستمرار العلاقات معها. وكان استقبال العدالة والتنمية لوفد حماس، وبعض الدعم المادي للفلسطينيين، تعبيراً خجولاً عن مشاعر المساندة، ومحاولة للعب دور أكثر توازناً تجاه القضية الفلسطينية. ولا يتوقع أن تتغير هذه السياسة، على الأقل في بعدها الحذر تجاه حكومة حماس، قبل اكتمال استحقاقي الانتخابات الرئاسية التركية والانتخابات النيابية2007.
50. حافظت إيران طوال السنوات الماضية على موقفها الثابت الداعم للشعب الفلسطيني وحركات المقاومة والرافض للاعتراف بإسرائيل. وقد لعبت التهديدات المحتملة التي تتعرض لها إيران إسرائيلياً وأمريكياً، بسبب سياساتها ومواقفها أو بسبب ملفه النووي، دورها في تعميق الموقف الإيراني وتقويته؛ فاعتبرعلي خامنئي أن "انتصار حماس هو تحقيق للوعد الإلهي بالانتصار للمجاهدين". كما أن مواقف الرئيس الإيراني أحمدي نجاد من لا شرعية وجود "إسرائيل" وحتمية زوالها فاقم من الهجوم السياسي والإعلامي الغربي على إيران. وكان لإيران دور بارز في تقديم دعم مادي لحماس وحكومتها وللشعب الفلسطيني يزيد عن 250 مليون دولار. وعلى الرغم من العلاقة الحميمة مع إيران إلا أن حماس حافظت على استقلالها، كما احتفظت بعلاقات متوازنة مع عدد من الدول العربية والإسلامية.
51. وفي باكستان يرى نظام الحكم بزعامة برويز مُشرّف أن علاقته بـ"إسرائيل" تفيده في تطوير علاقاته بالولايات المتحدة والحصول على دعمها، كما تفيد في تحقيق منافع اقتصادية وعسكرية، خصوصاً في ضوء تنافسه مع الهند، وفي ضوء تنامي العلاقات الهندية - الإسرائيلية. لكن الحكومة الباكستانية تتعامل مع الموضوع بالكثير من الحذر ، إذ إن قوة المشاعر الإسلامية في باكستان وعداءها المستحكم لـ"إسرائيل" وللتطبيع معها، فضلاً عن المعارضة الداخلية القوية التي يواجهها نظام حكم برويز مشرّف، يجعلان من الصعب على الحكومة الباكستانية القيام بأية خطوات جدّيّة في بناء علاقات مع "إسرائيل" في هذه المرحلة. ولذلك فإن العلاقات مع "إسرائيل"، اتسمت بمزيد من الحذر خلال سنة 2006، وخفّت اندفاعتها إثر الاحتجاجات الشعبية المحلية الواسعة. وهو ما دفع باكستان لتأكيد موقفها الرافض للتطبيع قبل قيام دولة فلسطينية .
52. لم تستطع "إسرائيل" خلال سنة 2006 تحقيق اختراقات حقيقة جديدة، في مجال العلاقات أو التطبيع مع بلدان العالم الإسلامي. كما أن حصارها الخانق للشعب الفلسطيني، ومحاولتها إسقاط حكومته التي انتخبها ديموقراطياً، وحربها ضد لبنان وحزب الله، قد أثارت مشاعر الغضب والاستياء ضدها في العالم الإسلامي. لكن بلدان العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمرالتي تنضوي تحتها ظلت على المستوى نفسه تقريباً من العجز واللافاعلية وعدم القدرة على التأثير في الأحداث، وكانت، كالعادة، دون المستوى في التعامل مع فك الحصار عن الشعب الفلسطيني، أو في استخدام إمكاناتها المادية والدبلوماسية في دعم قضيته العادلة. والجدول التالي يوضح حجم التجارة الإسرائيلية مع عدد من البلدان الإسلامية (بالمليون دولار :(

البلد تركيا نيجيريا ماليزيا كازاخستان إندونيسيا
الصادرات الإسرائيلية 2006 859.3 77.2 67.8 64.1 12.8
2005 903.2 47.4 130.7 47.9 14.1

الواردات الإسرائيلية 2006 1,272.7 0.3 53.8 2.3 87.1
2005 1,221.1 0.7 41 3.6 43.6

53. وإذا كان العالم الإسلامي أظهر تعاطفاً قوياً مع شعب فلسطين الذي يعاني من الاحتلال والقهر والحصار، فإن الاقتتال الداخلي الفلسطيني قد عكس صورة سلبية خففت من التفاعل الإيجابي الإسلامي مع القضية. وهذا يؤكد مدى المسؤولية التي تتحملها القيادة الفلسطينية في تكريس الوحدة الوطنية، وفي التواصل الفاعل مع العالم الإسلامي، الذي يشكل ذخراً استراتيجياً حقيقياً لا يجوز إهماله.

القضية الفلسطينية والوضع الدولي:
54. تشكل السلوك الدولي في معظمه تجاه القضية الفلسطينية خلال سنة 2006 كرد فعل على وقائع ثلاث، الأولى فوز حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية وتشكيلها الحكومة الفلسطينية، وثانيها انعكاسات الحرب الإسرائيلية اللبنانية على القضية الفلسطينية، وثالثها التحولات البنيوية في السلطة الأمريكية والمتمثلة في الفوز الذي حققه الديموقراطيون في انتخابات الكونجرس الأمريكي.
55. يمكن وصف عام 2006 بأنه من بعض أوجهه عام الحصار الدولي للديموقراطية الفلسطينية، حيث شكلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الرافعة المركزية لهذا الحصار. وتمثل الهدف المحوري من هذا الحصار في انتزاع تنازلات سياسية أبرزها الاعتراف بـ"إسرائيل"، والقبول بكافة الاتفاقات التي عقدتها منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية مع "إسرائيل". وفي الوقت نفسه، فإن المحور الإسرائيلي – الأمريكي واجه خلال سنة 2006 العديد من الاختلالات التي أضعفت هيبته وقبضته، وخصوصاً فشل العدوان على لبنان، والفشل في إسقاط حكومة حماس، وكذلك تَعمُّق المأزق الأمريكي في العراق.
56. ومع أن الولايات المتحدة أبدت تأييدها لمشاركة حركة حماس في الانتخابات، إلا أنها لم تقبل التعامل مع القوى التي اختارها الفلسطينيون لتشكيل حكومتهم المنتخبة. وذلك يعني أن الولايات المتحدة تعطي الأولوية في تعاملها السياسي مع النظم السياسية لا على أساس ديموقراطية وصول النظام إلى السلطة، بل على أساس مدى اتساق سياسة النظام مع السياسة الأمريكية،
57. يتباين الموقف الأوروبي في اتجاهه العام عن الموقف الأمريكي في مدى حدّته، أكثر من التباين في مضمونه الأساسي، فقد أوقف الاتحاد اتصالاته السياسية، وعلق مؤقتاً مساعداته المباشرة للحكومة الفلسطينية الجديدة. كان الموقف الأوروبي خلال سنة 2006 مشاركاً في الحصار المالي والدبلوماسي على الحكومة الفلسطينية مع هامش اختلاف عن الموقف الأمريكي، غير أنه من الناحية السياسية كان يميل إلى أولوية الموضوع الفلسطيني على غيره من قضايا الشرق الأوسط، كما اتسم ببعض النقد للمواقف الإسرائيلية.
58. و لم يكن الموقف الأوروبي إجماعياً، حيث عبَّرت بعض الدول الأوروبية مثل السويد وفنلندا والنرويج وخبراء في المفوضية الأوروبية والمجلس الوزاري للاتحاد الأوروبي عن ضرورة اتخاذ موقف أكثر مرونة مع الحكومة الفلسطينية. بينما يشير الموقف الفرنسي إلى تراجعٍ نسبيٍ عن الموقف التقليدي الذي ينتهجه الديجوليون تجاه الشرق الأوسط، فإلى جانب تأييد الحصار على الحكومة الفلسطينية، فإن فرنسا أصبحت أكثر ميلاً لتسويغ الهجمات العسكرية الإسرائيلية، حتى إن وزير خارجيتها أشار إلى تفَّهم بناء "إسرائيل" الجدار العازل لأسباب أمنية على أراضي الضفة الغربية.
59. وتشكل المسافة السياسية بين الموقف الروسي والموقف العربي بشكل عام المسافة الأقصر، قياساً للمسافات السياسية بين القوى الأخرى والموقف العربي في الموضوع الفلسطيني. وقد شكلت دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوفد من قيادة حركة حماس عقب فوز الحركة في الانتخابات اختراقاً مُهماً لمواقف الدول الكبرى، لكن روسيا بقيت حريصة على الانسجام مع بقية أعضاء اللجنة الرباعية، وذلك يعني أن روسيا حاولت اتخاذ موقف وسط في كافة الأبعاد، فهي لم تقاطع الحكومة الفلسطينية دبلوماسياً من ناحية، ولكنها التزمت بشروط اللجنة الرباعية من ناحية ثانية. وباعتبار النتيجة فإن روسيا حاولت أن تُميّز نفسها في تكتيك سلوكها تجاه الحكومة الفلسطينية، لكنها أكدت انسجامها مع توجهات القوى الدولية الأخرى فيما يتعلق بشروط التعامل مع هذه الحكومة.
60. اتسمت السياسة الخارجية الصينية بصبغة براجماتية إلى حدٍ كبير منذ الإعلان عن برنامج التحديثات الأربعة عام 1978. ولذلك، عملت على انتهاج سياسة محسوبة وضعت في اعتبارها علاقاتها التجارية والعسكرية المتطورة مع اسرائيل، ومصالحها الاقتصادية الهائلة مع أمريكا، إلى جانب مواقفها التاريخية والأيديولوجية ومصالحها في العالم العربي والإسلامي. ولذلك، فقد رحبت بنتائج الانتخابات الفلسطينية، ودعت إلى "عدم اتخاذ إجراءات قد تزيد أوضاع الشعب الفلسطيني سوءاً بعد فوز حماس"، إلا أن موقفها لم يتعارض مع موقف القوى الكبرى من حيث الجوهر، ولكنه أبقى على هامش من التمايز، مع تجنّب الدخول في معارك مع أمريكا. و لم تُوجّه الحكومة الصينية دعوة صريحة للحكومة الفلسطينية أو لأي من أعضائها بشكل مباشر، واكتفت بالتعامل معها في الحدود الدنيا.
61. تتسم السياسة اليابانية في الشرق الأوسط بشكل عام بتغليب البعد الاقتصادي في علاقاتها الدولية، والاستمرار في دبلوماسية "جميع الاتجاهات" التي انتهجتها اليابان منذ 1973، والتي تعني التعامل مع جميع الدول والاتجاهات السياسية بغض النظر عن تباينات هذه القوى أو الدول فيما بينها، مع عدم إغضاب أو استفزاز الولايات المتحدة. ولذلك التزمت اليابان بالتوجه السياسي للقوى الكبرى، ولكنها حاولت أن تخفف من وقع هذه السياسة على الشارع العربي بالتذكير المستمر بحجم مساعداتها للفلسطينيين ، حيث تحتل المرتبة الثانية في المساعدات المقدمة للشعب الفلسطيني. ويجدر رصد الاهتمام المتزايد لليابان بالمنطقة، وعدم التقليل من أهمية مدِّ خطوط التواصل معها بطرق مباشرة وغير مباشرة، وتشجيعها على تبني سياسات أكثر استقلالاً عن السياسة الأمريكية.
62. واتساقاَ مع الموقف الدولي، فرضت الأمم المتحدة قيوداً على الاتصالات بالحكومة الفلسطينية، ونصحت موظفيها بتجنب الاتصال بقيادات سياسية من حماس أو وزراء من الحكومة الفلسطينية والاقتصار على الاتصال بالتكنوقراط ولأغراض إجرائية. أما في مجال الصراع الميداني في فلسطين، فقد واصلت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتخاذ القرارات التي تدين "إسرائيل"، لكن مجلس الأمن فشل مرتين في إدانتها بسبب الفيتو الأمريكي.
63. تدخل الاعتبارات الاقتصادية في علاقات دول العالم مع "إسرائيل"، غير أن حجم تجارة الكثير من هذه الدول مع البدان العربية هو أكبر بكثير ؛ لكنها عادة ما تسعى لإرضاء أو عدم إغضاب "إسرائيل" باعتبارها بوابة لعلاقاتها السياسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة، كما أن بعضها يسعى للحصول على السلاح والتكنولوجيا الأمريكية المتقدمة من البوابة الاسرائيلية، فضلاً عن أن بلدان العالم العربي والإسلامي لا تقوم بأي دور جاد في استخدام نفوذها الاقتصادي لخدمة القضية الفلسطينية. أنظرالجدول التالي حول الصادرات والواردات الإسرائيلية مع دول مختارة 2005-2006 (بالمليون دولار) :
البلد الولايات المتحدة بلجيكا هونج كونج ألمانيا بريطانيا الهند الصين اليابان روسيا
الصادرات الإسرائيلية 2006 17,846.5 3,033.9 2,721.4 1,749.9 1,618.4 1,270.4 958.4 809.2 521
2005 15,500.1 3,679.5 2,373.6 1,345.9 1,649.9 1,222.8 747.9 799.1 417.6

الواردات الإسرائيلية 2006 5,916.6 3,920.5 1,525.2 3,201.4 2,458.5 1,433.3 2,427.9 1,292.2 1,141.3
2005 6,042.1 4,557.7 1,277.7 2,986 2,552.1 1,276.2 1,888.3 1,238.1 1,055.7
الأرض والمقدسات:
64. واصل الاحتلال الإسرائيلي اعتداءه على الأرض والمقدسات طوال سنة 2006، فصادر 7,313 دونماً من الضفة الغربية. وزاد عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية بنسبة 5.8% ، حيث وصل مع نهاية السنة إلى نحو460 ألف مستوطن، وهم موزعون على 155 مستوطنة، فضلاً عن 116 بؤرة استيطانية.
65. ويمتد جدار العزل العنصري مسافة 703 كم ، وسيعزل خلفه 555 كم2 (أي 9.8% من مساحة الضفة الغربية)، وقد زاد عدد التجمعات الفلسطينية المتأثرة به من 76 تجمعاً في سنة 2003، إلى 159 تجمعاً في سنة 2006. و سيضم الجدار 99 مستوطنة إسرائيلية يقطنها 408 آلاف مستوطن، أي ما نسبته 85% من عدد المستوطنين المقيمين في الضفة الغربية. وقد تم استكمال بناء 408 كم، أي ما نسبته 58% من الطول الكلي للجدار. وشكل جدار الفصل ما لا يقل عن 21 جيباً مغلقاً تتحكم "إسرائيل" في الدخول والخروج بها، ويحاصر الجدار في هذه الجيوب نحو 248 ألف فلسطيني، فضلاً عن محاصرة نحو 250 ألف فلسطيني آخرين في القدس.
66. وببناء الجدار الفاصل تكون "إسرائيل" قد قطعت شوطاً طويلاً في مصادرة المخزون الجوفي من مياه الشعب الفلسطيني، حيث ستحرم الشعب الفلسطيني من 12 مليون م3 من مياه الحوض الغربي، من أصل 22 مليون م3، وتقوم "إسرائيل" بانتزاع أكثر من 85% من المياه الفلسطينية من الطبقات الجوفية.
67. أما شرقي القدس فبلغ عدد سكانها سنة 2006 ما مجموعه 413 ألفاً منهم 231 ألف فلسطيني، و182 ألف مستوطن يهودي. وإذا ما تم احتساب أعداد سكان القدس بشطريهاالشرقي والغربي، فإن مجموع سكان القدس يصل إلى 720 ألفاً، بينهم 475 ألف يهودي، بنسبة 66%، و245 ألف عربي بنسبة 34%. وتسعى المخططات الإسرائيلية إلى أن تحصر نسبة الفلسطينيين في القدس بشقّيها الشرقي والغربي فيما لا يزيد عن الخمس أو الربع. وتقوم بوضع المقدسيين في ظروف في غاية الصعوبة فيمنعون من الاستمرار في الإقامة في القدس إذا أقاموا خارج الوطن للدراسة أو العمل، وفي سنة 2006 سحبت إسرائيل حق المواطنة من 1,363 مقدسياً.
68. تشكل مساحة الأراضي التي سيعزلها جدار الفصل العنصري في نهاية المشروع الإسرائيلي في منطقة القدس ما مساحته 151,974 دونماً أي نحو 43% من محافظة القدس، حيث سيتأثر 230 ألف فلسطيني أي نحو 56.5% من سكان محافظة القدس سلباً من إقامة الجدار. وفي سنة 2006، أكمل الاحتلال بناء نحو 89 كم، من أصل طول الجدار المقرر بناؤه والبالغ 162كم.
69. وتابع الاحتلال الإسرائيلي اعتداءه على والمقدسات، إذ كُشف في 3/1/2006 عن وجود كنيسٍ يهوديٍ أسفل المسجد الأقصى مكوّنٍ من طابقين. وفي 13/3/2006 افتتح رئيس كيان الاحتلال غرفةً جديدة للصلاة في ساحة البراق. وقد قامت سلطات الاحتلال في 13/8/2006 بطرح مناقصة لهدم طرق باب المغاربة، وقد طال الاعتداء الصهيوني في القدس مقبرة "مأمن الله"؛ حيث شرعت بلدية القدس في إقامة متحف على أرض المقبرة.

الوضع السكاني:
70. تشير التقديرات المنقحة للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن عدد الفلسطينيين في العالم في نهاية عام 2006 قد بلغ حوالي 10.1 مليون نسمة، يقيم أكثر من نصفهم 50.4% في فلسطين التاريخية، ويشكلون حوالي خمسة ملايين و90 ألف نسمة، والباقي حوالي خمسة ملايين وعشرة آلاف نسمة يقيمون في الشتات. ويتوزع السكان الفلسطينيون المقيمون في فلسطين التاريخية إلى حوالي مليون و134 ألف نسمة يقيمون في الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1948، أو ما أصبح يُسمى "إسرائيل"، وحوالي مليونين و480 ألف نسمة في الضفة الغربية ، وحوالي مليون و470 ألف نسمة في قطاع غزة. ويقيم في الأردن نحو مليونين و800 ألف، وفي سوريا 450ألفاً ، وفي لبنان نحو 400 ألف. أما عدد اللاجئين فيصل إلى حوالي ستة ملايين و740 ألف نسمة (في الخارج خمسة ملايين وسبعة آلاف و918، وفي الداخل مليون و732 ألفاً و801) بمعنى أن حوالي 66.7% من الفلسطينيين في العالم هم لاجئون.
71. يمتاز المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة بأنه مجتمع فتي، إذ يشكل السكان الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة حوالي 45.7% في نهاية عام 2006. غير أن معدلات الخصوبة في الضفة الغربية وقطاع غزة قد انخفضت في العقد الأخير من القرن الماضي، حيث بلغ معدل الخصوبة الكلية 6.04 مولوداً بالاستناد إلى بيانات التعداد السكاني 1997 ثم أصبح 4.6 مولوداً عام 2003. أما معدلات الزيادة الطبيعية السنوية للسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة فقد انخفضت من 3.8% إلى 3.3% خلال الفترة 1997ـ2006. ويُتوقع أن تصل نسبة الزيادة إلى 2.8% عام 2015.
72. إن الضغوط الهائلة التي نتجت عن الاحتلال إدت إلى أن يتطلع نحو 30% من الفلسطينيين في الضفة والقطاع إلى الهجرة، وغالبيتهم من الشباب؛كما أن هناك 50 ألف طلب هجرة فلسطيني قدمت إلى مختلف القنصليات الأجنبية، وتضم هذه الحالات مختلف المناطق الفلسطينية وجميع الطوائف، ولكنها تتعاظم نسبياً بين المسيحيين إلى حد كبير وخطير.

الاقتصاد في الضفة الغربية وقطاع غزة:
73. الاقتصاد الفلسطيني في الضفة والقطاع هو اقتصاد تحت الاحتلال. إنه أقرب إلى إدارة مجموعة من السجناء جانباً من شؤونهم الاقتصادية في سجن كبير. و"السجّان" الاسرائيلي يتحكم بالحدود والمعابر وفي حركة البضائع والأشخاص، ويستطيع قتل الناس وتدمير الممتلكات ومصادرتها، وإقامة الحواجز وتقطيع أوصال الأرض، ومنع الصادرات والواردات، فضلاً عن التحكم بمصادر المياه والكهرباء والنقل والطاقة. ولذلك فإن الوضع الاقتصادي لا يعكس إطلاقاً إمكانات الشعب الفلسطيني وطاقاته، بقدر ما يعكس الأوضاع الشاذة لشعبٍ يعاني مرارة الظلم والقهر.
74. لقد نجح الاحتلال الصهيوني في ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الاسرائيلي، فأصبح أكثر من ثلثي الواردات الفلسطينية تأتي من مصادر اسرائيلية، كما أن تسعة أعشار الصادرات الفلسطينية تذهب إلى السوق والمؤسسات الاسرائيلية.
75. الحصار كان هو عنوان سنة 2006، وتشير التقديرات الأولية إلى إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي من 4,442.7 مليون دولار في العام 2005 إلى 4,150.6 مليون دولار في العام 2006، أي بما نسبته 6.6% تقريباً.
76. وحسب التقديرات الأولية لعام 2006 فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2006 تراجع عما كان عليه في العام 2005 بما نسبته 9.7%، حيث تراجع من حوالي 1,264 دولاراً إلى 1,141 دولاراً تقريباً.
77. وأظهرت الميزانية عام 2006 عجزاً قبل التمويل قدره 1,376 مليون دولار، مقابل عجز مقداره 716 مليون دولار في العام 2005. و يعود السبب الرئيسي لهذا التراجع إلى توقف السلطات الإسرائيلية عن تحويل أموال السلطة الفلسطينية التي تقوم بجبايتها من إيرادات المقاصة الشهرية إلى وزارة المالية الفلسطينية، والتي تراجعت من 814.3 مليون دولار سنة 2005 إلى 68.7 مليون دولار سنة 2006، حيث كان قد تم تسليمها قبل تشكيل حكومة حماس ، أي بنسبة تراجع قدرها 91.6%.
78. واصلت النفقات العامة تراجعها خلال عام 2006 عما كان عليه الوضع في العام 2005، فقد تراجعت النفقات تبعاً لتراجع الإيرادات من 1,650 مليون دولار في العام 2005 إلى 1,574 مليون دولار وبنسبة تراجع قدرها 4.6%. وقد مثّلت الرواتب والأجور ما نسبته 75% من إجمالي النفقات (1,181 مليون دولار)، وهذا يشير إلى أن السلطة هي الموظف الرئيسي للقوى العاملة.
79. وقد وصلت قيمة الرواتب والأجور وأشباه الرواتب إلى حوالي 120 مليون دولار شهرياً. وقد شكلت الرواتب خلال العام 2006 ما نسبته 75% من إجمالي النفقات مقابل 60% في العام 2005، حيث بلغت قيمة الرواتب والأجور في العام 2006 ما مجموعه 1,181 مليون دولار مقابل 1,000 مليون دولار في العام 2005. وتعزى الزيادة في الرواتب والأجور إلى زيادة في أعداد الموظفين من حوالي 140,500 موظف بنهاية شهر حزيران/ يونيو 2005 إلى ما يزيد عن 160,000 موظف بنهاية شهر حزيران/ يونيو 2006، أي بزيادة نسبتها 14% تقريباً، تم توظيفهم في نهاية عهد الحكومة السابقة لحكومة حماس. وبلغت الرواتب غير المسددة والمستحقة للعاملين في السلطة الفلسطينية قرابة 500 مليون دولار.
80. كما تراجعت الإيرادات العامة للسلطة الفلسطينية بنسبة 72.3% لتصل إلى حوالي 357.8 مليون دولار في العام 2006 بعد أن كانت 1,290.7 مليون دولار في العام 2005.
81. انخفض حجم المساعدات التي تتلقاها السلطة في العام 2006 بما نسبته 37.2% تقريباًعن سنة 2005 ، من حوالي 1,189 مليون دولار إلى 747 مليون دولار تقريباً، حيث حصلت الحكومة الفلسطينية على 234 مليوناً، منها 181 مليوناً جاءت من البلاد العربية، ووصل إلى مكتب الرئيس عباس 294 مليوناً، منها 275 مليوناً من البلاد العربية، ووصل عن طريق الآلية الدولية المؤقتة 172 مليوناً، كما وصل 49 مليوناً عن طريق الإغاثة الانتقالية الطارئة التي تديرها المفوضية الأوروبية.
82. غير أن هناك مبالغ أخرى تم الحصول عليها من إيران ومن الشعوب العربية والإسلامية، ومن خلال مؤسسات العمل الخيري، حيث كان يتم من خلالها دعم صمود الشعب الفلسطيني وإقامة المشاريع المختلفة. ولذلك يرتفع تقدير حجم المساعدات الخارجية لسنة 2006 إلى 1,350 مليوناً (حسب وزير المالية سلام فياض). وقد عوّضت هذه المساعدات، إلى حدٍ ما، عدم تسديد "إسرائيل" لأموال الفلسطينيين التي تجمعها من الضرائب، وقلّلت من حالة الانهيار الكارثية التي كانت مرتقبة بسبب الحصار.
83. وأظهرت البيانات ارتفاع نسبة العائلات التي تعيش تحت خط الفقر إلى 68%. ووصلت نسبة أهالي قطاع غزة الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 79%، منهم 51% يعيشون في فقر شديد، أما في الضفة الغربية فبلغت نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر 61%، منهم 28% يعيشون في فقر شديد. وتشير البيانات إلى أنه وفقاً للتعريف الموسع للبطالة، ارتفعت نسبة الأفراد الذين لا يعملون إلى 30.3%.
84. وكانت حصيلة خسارة مؤشر القدس خلال عام 2006 ما مقداره 523 نقطة وبنسبة انخفاض بلغت 46% مقابل نسبة نمو قدرها 306% في عام 2005.
85. تتمثل نقاط الضعف الاقتصاد الفلسطيني في استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وفي ضعف القطاع الحكومي المتمرس والقادر على تقديم الخدمات الحكومية، وفي أن الضفة الغربية وقطاع غزة تعدّان من المناطق الفقيرة بمواردهما الطبيعية، من حيث الاتساع الجغرافي ونقص مصادر المياه وعدم وجود ثروات طبيعية أو معدنية. أما أبرز عناصر القوة فهي الثروة البشرية الهائلة ذات الإمكانات النسبية المتميزة.
86. إن الاقتصاد الفلسطيني في الضفة والقطاع تتمّ إدارته في أجواء احتلال قهري تسلّطي مُعادٍ، يستهدف إخراج الفلسطيني من أرضه وإذلاله، وإحلال المستوطن اليهودي مكانه، وإن أية علاجات جذرية للاقتصاد الفلسطيني تتطلب التركيز على إزالة الاحتلال، وليس فقط محاولة التخفيف من آثاره. ومن المتوقع أن تزداد الأوضاع الاقتصادية سوءاً في ظل الإصرار الإسرائيلي على إسقاط الحكومة التي تقودها أو تشارك فيها حماس، وفي ظل غياب برنامج فلسطيني أو عربي قوي وموحَّد لفك الحصار.

الوضع الفلسطيني.. إلى أين؟!

أ.د. محمد اسحق الريفي

ماذا بعد... سؤال يطرح نفسه بقوة على الجميع في ظل ما شهدته الساحة الفلسطينية من تطورات في أعقاب نجاح حركة حماس في إنهاء تمرد عصابات الأجهزة الأمنية التي تولت تنفيذ مؤامرة أمريكية صهيونية معلنة لتصفية قادة حركة حماس وعناصرها، وهو سؤال يفرضه استمرار مسلسل التآمر الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ضد حركة حماس، خاصة في ظل القرارات الباطلة التي أصدرها محمود عباس والتهديدات التي أطلقها الاحتلال الصهيوني.

وفي البداية، تجدر الإشارة إلى أن إنهاء حالة الفلتان التي كانت تقودها عصابات تعمل في الأجهزة الأمنية، وتتخذ من حركة فتح مطية لها وغطاء تنظيمي لإجرامها، قد أصبح مطلباً شعبياً وهدفاً استراتجياً لحركة حماس منذ أن حالت تلك العصابات دون مزاولة الحكومة الفلسطينية العاشرة أعمالها والتمتع بكامل صلاحياتها، فتحولت تلك الحكومة إلى رأس بلا جسد وفق مخطط أمريكي صهيوني أشرف على تنفيذه التيار المتصهين في فتح.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد من الانقلاب على شرعية الحكومة، فقد تحولت تلك العصابات إلى أداة لنشر الفلتان الأمني بذريعة تأخر رواتبها، رغم أنها أنفقت على نشر الفلتان أضعاف مرتباتها، الأمر الذي أدى إلى تقويض أسس السلم والأمن في المجتمع الفلسطيني، وتمزيق نسيجه الاجتماعي، وتحويل غزة – تحديداً – إلى بيئة خصبة للإجرام والإفساد، فكان لا بد من وضع حد لهذه العصابات والتيار المتصهين الذي يرعاها وإخضاع الأجهزة الأمنية لوزارة الداخلية.

ولذلك فإن الحالة التي وصل إليها شعبنا في الضفة والقطاع جاءت نتيجة طبيعية وحتمية لتآمر الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها على القضية الفلسطينية، ورعاية ما يسمى "المجتمع الدولي" لتلك العصابات ودعمها بالمال والسلاح والعتاد، لتصفية حماس، وارتكاب الجرائم البشعة بحق شعبنا وقتل العشرات من أبنائه دون أي ذنب.

ولقد كثف العدو الأمريكي والصهيوني في الآونة الأخيرة من تحريضه لتلك العصابات ودفعه لها إلى ارتكاب المزيد من الجرائم البشعة ضد شعبنا وقادة حماس وكوادرها، فوجدت حماس نفسها بين خيارين اثنين: إما السكوت على جرائم تلك العصابات خشية اندلاع حرب أهلية، وإما مواجهة تلك العصابات والسيطرة على الأجهزة الأمنية التي تحتضنها حفظاً للأمن ولوضع حد لمؤامرة أمريكية صهيونية إجرامية.

الخيار الأول كان سيؤدي إلى شق صف حماس وتمرد مجاهديها الذين نالوا النصيب الأكبر من إجرام تلك العصابات وعدوانها المتواصل، وهذا ما كان يسعى إليه الأمريكيون والصهاينة ويروجوا له، مستخدمين كل إمكاناتهم وإمكانيات عملائهم، طمعاً في خروج بعض عناصر كتائب القسام عن طاعة قيادتها العسكرية والسياسية وتحولها إلى خلايا منفلتة، وبالتالي تشويه صورة المقاومة الفلسطينية تمهيداً للقضاء عليها.

وقد كان العدو الأمريكي والصهيوني يأمل في أن يؤدي الخيار الثاني إلى اندلاع حرب أهلية تخرج منها الأجهزة الأمنية منتصرة على حماس ومجاهديها رغم أن المواجهات السابقة أكدت عكس ذلك تماماً، فقد أظهرت كتائب القسام في تلك المواجهات قدرة عسكرية فائقة وتمكنت من السيطرة على العديد من مواقع الأجهزة الأمنية بسرعة وبسهولة واستولت على أسلحتها وعتادها العسكري

لم يسع حماس إزاء هذه المؤامرة الخطيرة سوى تدارك الأمر بسرعة، والحفاظ على الحد الفاصل بين الصبر والعجز، والعمل بحنكة على حماية وحدة صفها ووجودها، والحفاظ على التأييد الشعبي الذي تحظى به، فضربت ضربتها الحاسمة، فأذهلت العالم، وخيَّبت ظن العدو الأمريكي والصهيوني، وقلبت الموازين الأمريكية والصهيونية، ووضعت المجتمع الدولي وجهاً لوجه أمام تعديه على حقوق شعبنا وفشله في كسر إرادته... وحق للجميع أن يسأل: "ماذا بعد".

ومن البديهي القول أنه لا يوجد خيارات كثيرة أمام حركة حماس وشعبنا المجاهد غير الصبر والثبات، وإعادة بناء الثقة وتمتين الجبهة الداخلية، والعمل على رفع معاناة شعبنا من خلال تكافله وتلاحمه، ونقل صورة الأوضاع في الضفة وغزة للعرب والمسلمين وكل العالم، وكشف حقيقة الدور الخياني الذي يمارسه محمود عباس وتياره المتصهين، وفضح المجتمع الدولي الذي توحد على انتهاك حقوق شعبنا والتنكيل به والتآمر عليه، وتعرية الاحتلال الصهيوني وفضحه، والتصدي للهجمة الإعلامية الشرسة ضد حماس والحكومة الشرعية التي تتولاها...

وفي ذات الوقت لا بد من مواصلة المقاومة ضد الاحتلال حتى دحره، وبذل كل الجهود الممكنة لكسر الحصار الاقتصادي والسياسي المفروض على شعبنا وحكومته الشرعية، والعمل على فتح الحدود بين مصر وغزة لينال شعبنا حقه في السفر والتنقل والتجارة أسوة بكل شعوب الأرض ووفقاً للقوانين والمعاهدات الدولية والأعراف الإنسانية والشرائع السماوية...

وتجدر الإشارة إلى ضرورة قيام الأحزاب والتنظيمات والحركات العربية والإسلامية، والمؤسسات الفكرية والثقافية والسياسية العربية والإسلامية، والقادة السياسيين والمفكرين والمثقفين والعلماء والدعاة المسلمين بدورهم في نصرة شعبنا ودعمه، وتحمل مسؤولياتهم القومية والدينية والإنسانية، والضغط على النظام الرسمي العربي من أجل كسر الحصار عن شعبنا ورفع الظلم عنه.

وهنا يحق لنا التساؤل عن سبب تجاهل بعض الفضائيات العربية المشهورة لمعاناة شعبنا، ونقلها المشوه والمختزل وغير الحيادي لحقيقة الأوضاع في الضفة وغزة، وعدم التزامها بالمصداقية، وتبنيها لوجهة النظر الأمريكية والصهيونية ورواية التيار المتصهين للأحداث...!!

إن أكبر تحدٍ يقف اليوم في وجه حماس وشعبنا المجاهد هو وجود فئة من أبناء الشعب لا تنظر إلى القضية الفلسطينية إلا من خلال معايير غير وطنية تتعلق بحياتها المعيشية، فمثل هذه الفئة لا تؤمن بمعاني التضحية والصبر وتحمل المعاناة والاحتساب عند الله عز وجل، وتعتبر مصالحها فوق كل الاعتبارات الوطنية والدينية. وعادة لا تشعر هذه الفئة بتضحيات الشهداء وما يلاقيه المعتقلون واللاجئون من شتى صنوف الذل والمهانة والعذاب.

وهذه الفئة هي مادة الآلة الإعلامية الصهيونية التي تشن حرباً نفسية على شعبنا وتسعى إلى النيل من إرادته وعزيمته، وهي وسيلة الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي لتأليب شعبنا وتحريضه ضد حكومته الشرعية.

أما التحدي الثاني، فهو يكمن في أن شريحة واسعة من الشعوب العربية والإسلامية لا تعرف حقيقة ما يجري في فلسطين وتستقي معلوماتها من وسائل الإعلام التي تزور الحقائق وتشوه الصورة، إضافة إلى اعتمادها في فهم الأمور على الأقلام التي تمارس الإرجاف والتثبيط، الأمر الذي يؤدي إلى تثبيط الهمم وتخلي العرب والمسلمين عن مسؤولياتها تجاه شعبنا، وإطلاق العنان للنظام الرسمي العربي للمساهمة في حصار شعبنا والتآمر على حكومته الشرعية التي تقودها حماس.

أما بالنسبة لخيارات العدو الأمريكي والصهيوني فهي كثيرة، وهي تتراوح بين خنق غزة وتجويعها حتى الاستسلام أو الموت وبين مساومة حماس على المعابر والحدود في مقابل وقف إطلاق صواريخ القسام على المغتصبات الصهيونية وإطلاق سراح الجندي الصهيوني الأسير...

وبين الخنق والمساومة، ستجيش الولايات المتحدة الأمريكية وسائل الإعلام العربية التي تمولها وأبواق الدعاية الصهيونية التي تمتلكها لشن حرب نفسية على شعبنا، وتشويه صورة حماس لدى العرب والمسلمين والعالم، وربطها بأحداث العنف في لبنان وانتشار الإرهاب في العالم، والطعن في استقلالية مواقفها وقراراتها...

وسيحاول العدو الصهيوني إحكام سيطرته على الضفة الفلسطينية لمنع تكرار الحالة الغزية فيها، وسيستغل العدو الأمريكي والصهيوني فلول التيار المتصهين الذي فر إلى الضفة ويوظفه في محاولة تصفية حماس والقضاء على ذراعها العسكري.

كما أن الجيش الصهيوني قد أعد خطة عسكرية لإنشاء شريط حدودي على أراضي قطاع غزة، لمنع إطلاق صواريخ القسام على المغتصبات المجاورة للقطاع، واستخدام فلول التيار المتصهين دروعاً بشرية لحماية مغتصبة اسديروت ومرتزقة لمحاربة كتائب القسام...

وفي ظل استمرار مسلسل المؤامرات على القضية الفلسطينية، لا يوجد أمام شعبنا سوى التمسك بالثوابت والحقوق وعدم الرضوخ لإملاءات المجتمع الدولي ومطالبه وشروطه...

ولا يوجد أمام الحكومة الشرعية التي تتولاها حماس سوى الاستمرار في عملها وأخذ صلاحياتها كاملة – على الأقل في قطاع غزة – رغم المرسوم العبثي الذي أصدره عباس وتمخض عنه ولادة حكومة عبثية باطلة بكل المعايير، ولا يوجد أمام الحكومة الشرعية غير المبادرة إلى إنجاز برامجها للإصلاح والتغيير، ورفض مخطط فصل الضفة عن غزة أو إقامة دولة فلسطينية في غزة.

ومع حسم الأمور في غزة لصالح شعبنا وحركته المقاومة، والقضاء على أدوات التآمر الأمريكي الصهيوني هناك، وانتهاء ظاهرة الفلتان واختفاء أسبابها، فلن يضر شعبنا العزل والخنق والتآمر، طالما أن جبهته الداخلية موحدة وعصية على الاختراق والتمزيق، وليذهب الصهاينة والأمريكان وعملاؤهم وحلفاؤهم ومؤامراتهم إلى الجحيم.

(( نقلا عن المركز الفلسطينى للاعلام ))


ما بعد إقالة الحكومة الفلسطينية : كيف نرسم مسار الرؤية السياسية العربية ؟
د. أسامة الأشقر
لم تكن الظروف طبيعية بالمرة لأنها في الأصل لا تجري على أرض مستقرة وإنما في أرض واقعة تحت احتلال شرس ومقاومة صعبة له، تركّبت على هذه الأرضية المتغيّرة وقائع سياسية مأزومة لأنها لم تكن في سياقات عادية، وفوق هذا كله كان هناك محيط عربي ودولي لا يستجيب للمتغيرات بل يتعامل مع المتغير بمنطق سياسي ثابت مما دفع الأمور إلى ما بعد حافة الهاوية السياسية.
هذا التشخيص هو الأدق في نظري لإعطاء المشهد رؤيته المتحركة باستمرار إذ يتحمّل هذا التشخيص الكثير من الإزاحة والتغييرات السريعة وفق رؤية ناظمة.
ولتحليل المشهد إلى عناصره المتحركة ستنكشف لنا حقائق المسؤولية بسرعة، والمسؤولية هاهنا قد لا تعني الإدانة بقدر ما تعني التسبب بالحدث لسبب موضوعي مقبول أوموضوعي غير مقبول إذ لابد للمواقف السياسية أن تستند إلى مبررات موضوعية، ثم بعد ذلك سنختلف في مدى قبولنا لها تبعاً لتوجهاتنا الفكرية والسياسية.
فلسطينياً يتكون المشهد من عنصرين مركزيين يتفاعلان مع عناصر فرعية فلسطينية هي بمثابة المشاهد التفصيلية الصغيرة التي تملأ بعض المشاهد التفصيلية الكبيرة لهذين العنصرين، ويتحرك في خلفية المشهد كله الظرف الموضوعي الواقع على الفلسطينيين وهو الاحتلال الذي يؤثر ويتأثر بقوة مع عناصر المشهد بتفاصيله الكبيرة والصغيرة.
العنصران الكبيران هما حركتا فتح وحماس أي السلطة والمعارضة وهذا هو المشهد الحقيقي لهذين العنصرين (أي سلطة ومعارضة) رغم أن حماس ترأس حكومة الحكومة وكانت تشكّل بمفردها الحكومة السابقة لها لكن الواقع لا يقبل تكييفاً غير هذا التكييف والوصف كما سنشرح.
حركة فتح بعد رحيل زعيمها المؤسس ياسر عرفات وبعد خسارتها في انتخابات المجلس التشريعي مطلع 2006 لم تكن مهيأة للتعامل مع وضع ديمقراطي لا يتناسب مع زعامتها الفردية للقرار الفلسطيني منذ أربعين عاماً، ولم تكن مستقرة تنظيمياً في مستواها القيادي وفي مستواها القاعدي للتعامل مع هذا الظرف الكبير الذي تكوّن؛ فكان الإطار الناظم لعلاقتها مع القوة المنافسة الجديدة (حماس) يعتمد على سياسة (منع حماس من التمكّن في السلطة) ولم يترافق مع هذه السياسة السلبية أي تطور في البناء الحركي لفتح أو في الرؤية السياسية المعتمدة على تنفيذ رؤية بوش لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة في مناطق السلطة، مما جعل العلاقة يحكمها التوتر الدائم والعنيف أحياناً كثيرة مع حماس المستقرة تنظيمياً رغم استهداف الاحتلال لها لاسيما في الضفة الغربية، والواضحة سياسياً رغم المرونة الخطرة التي انتهجتها عقب موافقتها على وثيقة الوفاق الوطني وتداعياتها ثم التزامها باتفاق مكة والتزاماته.
حركة حماس لم تكن مستعدة أيضاً لفوزها الكبير في الانتخابات التشريعية وإن كان مؤشر الصعود لديها يفيد أنها تعمل في إطار مشروع كبير لها يعتمد على إعادة تدوير القضية الفلسطينية وإبرازها كقضية بلد محتل يمارس مقاومة مشروعة وتديره سلطة تنفيذية دون الادعاء بأنها ذات سيادة، ولتثبيت هذا المشروع قامت حماس في بداية توليها للحكومة بعملية كبيرة أسرت فيها جندياً إسرائيلياً في عملية عسكرية واستعادت زمام المبادرة السياسية في الوضع الفلسطيني من خلال هذا الملف، وكانت قوة حماس خلال هذا كله تزداد رغم حملة حركة فتح الشرسة عليها ورغم الحصار الدولي والعربي الخانق عليها، وكان من المفروض وفق السيناريوهات المعدّة أن تسقط حماس إثر هذا الحصار والتعطيل ولكن الذي جرى أن قوة حماس تعززت بفعل صمود حكومتها المحاصرة والمأزومة سنة كاملة ثم خروجها منتصرة (بالنقاط) في اتفاق مكة.
كانت الخلفية الإسرائيلية تغزو المشهد الفلسطيني بكل عناصره فهي من جهة تبدي تأييدها لحركة فتح أو للقيادة السياسية تحديدا فيها وتقوم بإسنادها فيما يخدم مشروعها الأمني الذي بُنيت السلطة الفلسطينية في اتفاق أوسلو على أساسه من خلال أجهزة السلطة الأمنية، بينما لم تعط (إسرائيل) حركة فتح أي مجال سياسي للتحرك بل استمرت في سياستها القائمة على تقطيع الوقت دون تقديم أي شيئ لسبب استراتيجي واضح لديها أنه (ليس في قدرتها تقديم المزيد من التنازلات على الأرض، وإلا فإن كيانها الجغرافي والسياسي سيتعرض لهزة استراتيجية عنيفة)، ثم مارست إسرائيل دوراً مباشراً في تقويض النظام السياسي للسلطة الفلسطينية ليس بغرض تدميره وإنما بغرض إجهاض نزعاته الاستقلالية لاسيما بعد فوز حماس .

وفي المقابل فلم تتعامل (إسرائيل) مع المتغيرات السياسية المستجدة واتخذت سياسة غير واقعية في التعاطي معها مما أضعف دورها في التحكم بمساراتها ومراكز الفعل فيها نظراً لسيادة منطق التعامل الأمني لديها على حساب منطق التعامل السياسي.
أما المحيط العربي فقد كان المشهد الغالب فيه هو العجز وسوء التقدير فلم يتعامل النظام العربي في جملته مع المتغيرات واستخدم المنطق الأمني والإنساني فقط في التعاطي معها ولم يتجه صوب بناء مسار سياسي متزن يتعامل مع المتغيرات السياسية الكبيرة الحاصلة فتعاطى مع حركة حماس كمشكلة سياسية وأزمة ولم يتعامل معها كواقع سياسي كامل نظراً لارتفاع حماس عن السقف العربي الممثل بالمبادرة العربية وعدم قبول حماس للمبادرة رغم التزامها بعدم معارضتها قبيل اتفاق مكة، وتوزع الموقف العربي بين رفضٍ لهذا المتغير كما هو الحال في الموقف الأردني، أو التعاطي الأمني معه من خلال رؤية إقليمية ترى ضرورة التعامل مع الواقع للحفاظ على التأثير الإقليمي كما هو الحال في مصر، أو الموقف الإنساني المصاحب للصمت السياسي الذي تعتمده معظم الدول وعلى رأسها السعودية، بينما تميز الموقف السوري بالإسناد اللوجستي للمتغير السياسي لاعتبارات استراتيجية سورية، وتميز الموقف القطري بالديناميكة السياسية لاعتبارات وظيفية تقوم عليها دولة قطر الجديدة في رؤيتها السياسية المستقلة عن الرؤية السياسية التابعة لدولة بعينها.
وأما العجز السياسي فقد ظهر بوضوح في عجز النظام العربي عن فك الحصار المالي عن حكومة الوحدة والحكومة التي قبلها رغم قرارات القمة العربية الواضحة في ذلك وقرارات منظمة المؤتمر الإسلامي، ثم العجز عن تسويق حكومة الوحدة وبرنامجها السياسي رغم المظلة السعودية المهمة، وتبدَّى هذا العجز في عدم فك الحصار العربي المالي إذ لم يتعامل أي مصرف عربي مع المنظومة المالية للحكومة الفلسطينية خشية العقوبات الأمريكية بل إن جامعة الدول العربية نفسها حُجِزت عن ممارسة أي دور بعد الدعاوى القانونية المرفوعة عليها من مؤسسات دولية تخضع للنفوذ الأمريكي تمنع الجامعة من التصرف في حسابات الدعم العربي للحكومة الفلسطينية.
ولعل من أخطر مظاهر العجز السياسي العربي هو تورط العرب بتبني الرؤية السياسية لحركة فتح في التعاطي مع حركة حماس والحكومة الفلسطينية فقد تعاملت حركة فتح مع حماس بمنطق التجاهل فيما يخص العلاقات العربية والدولية فلم يكن لحكومة حماس أي نصيب في أي لقاء مع أي قيادة عربية أو أجنبية تزور مناطق السلطة أو تزورها الرئاسة الفلسطينية، وتركّز الأمر كله في يد مؤسسة الرئاسة التي تضخمت بالمستشارين ومسؤولي الملفات السرية، وكان الاختراق الوحيد في اصطحاب رئيس السلطة محمود عباس لرئيس حكومته إسماعيل هنية في القمة العربية ثم لم يتكرر هذا الاختراق.
أما الرؤية الدولية فقد أثبتت هي الأخرى نمطيتها وبطئها وعجزها فقد تبنت الرؤية الإسرائيلية الأمريكية وفرضت الحصار السياسي والمالي الكامل على الحكومة الفلسطينية وحماس ولم تمتلك التقديرات الأكاديمية والاستراتيجية التي كانت تنصح بها مراكز الدراسات الأوروبية الجادة القدرة على التأثير في صناعة السياسة الدولية، ولم تستطع الرؤية الروسية المبنية على التعاطي الواقعي مع المتغيرات ومفرزات الديمقراطية الجديدة في فلسطين أن تؤثر في الموقف الأوروبي فضلا عن الأمريكي نظراً للضعف العام في الوزن السياسي الروسي على الصعيد الدولي رغم أهميته.
وبناء على هذه الرؤية المشهدية فإن ما جرى في فلسطين عقب إقالة رئيس السلطة لحكومة الوحدة الوطنية ورفض حماس الاعتراف بهذا الواقع بالاعتماد على أنها قوة صاعدة استطاعت مواجهة كل الأزمات السابقة والانتقال بها من مستوى إلى مستوى أقل ضرراً دون أن تتخلى عن منظومتها الفكرية والسياسية التي يسعى المحيط الفلسطيني الرسمي والعربي والإسرائيلي والدولي لدفعها للتخلي عنها– فإن ما جرى سيؤزم الواقع الفلسطيني والعربي والدولي إذا لم تتحرك سياسات هذه الدول نحو الاعتراف بالمتغيرات السياسية أو الاقتراب منها ثم تكييف سياسة جديدة واقعية، ولابد أن يأخذوا بعين الاعتبار أن التقدير السياسي العادي أو المتأثر بموقف مسبق لدولة أو نظام ما لن يكون مجدياً أو مفيداً بل لابد أن تتحدد مستويات قراءة عالية تعتمد على أن فلسطين واقعة تحت احتلال لا يمتلك أفق حل سياسي وأن في فلسطين قوة صاعدة جديدة وواعدة وذات أرضية شعبية تؤثر بقوة في الواقع السياسي الفلسطيني بل أصبحت اليوم لاعباً استراتيجياً لا يمكن تجاهله .
* محلل سياسي ومدير مؤسسة فلسطين للثقافة.
المركز الإعلامي الفلسطيني

هل تعلن «حماس» ميني دولة فلسطينية في قطاع غزة؟
سليم نصار صحيفة الحياة اللندنية
عندما انفجر الخلاف بين «حماس» و«فتح» قبل توقيع اتفاق مكة، كتب النائب السابق في الكنيست الإسرائيلي رئيس حزب التجمع الديمقراطي عزمي بشارة، مقالة وصف فيها صراع الحركتين بأنه أشبه بتنازع سجينين على إدارة الزنزانة.
وكان بهذا التشبيه يحاول تذكير رئيس السلطة محمود عباس ورئيس الوزراء إسماعيل هنية، بأن إنهاء الاحتلال، لم يتحقق، وبأن وحدة الحركتين شرط لتسريع الانسحاب الإسرائيلي .
ومثل هذا الاستنتاج عرضه وزير الإعلام الفلسطيني الدكتور مصطفى برغوثي الذي طالب بتأجيل كل الخلافات العقائدية والأمنية إلى حين التخلص من وطأة الاحتلال، واعتبر أن الصدامات الداخلية الفلسطينية هي أفضل حل توظفه "إسرائيل" لتجنب مبادرات السلام.
ولكن نداءات التهدئة والمصالحة فشلت في لجم المسلحين الذين فرضوا إرادتهم على القادة، وذهبوا بالقتال إلى اقصى درجات العنف. وهكذا اضطر زعماء الفريقين إلى حسم الخلاف عسكرياً، الأمر الذي انتهى باستيلاء «حماس» على مدينة غزة وطرد جماعة «فتح» منها. ويرى المراقبون أنه في حال نجح إسماعيل هنية في توسيع نفوذ حركته ليشمل كل القطاع (350 كلم مربع) يكون بهذه الخطوة قد أرسى دعائم دولة ميني - فلسطين، وهيأ الظروف لفتح حوار بينه وبين "إسرائيل".
السؤال الملح الذي يطرحه المحللون يتعلق بأسباب الانهيارات الأمنية داخل غزة، وبالدوافع العميقة التي أدت إلى انفراط عقد حكومة الوحدة الوطنية؟
الجواب يبدأ مع رحيل ياسر عرفات وتثبيت محمود عباس مكانه، وعلى رغم الانتقادات التي تعرض لها أبو عمار، إلا أن زعامته داخل الحركة الوطنية الفلسطينية ظلت هي العنصر المهيمن على مختلف الأحزاب والحركات. ولما سقط رهانه على صدام حسين، اضطر للقيام بانعطافة تاريخية أوصلته إلى أوسلو، ومن هناك أكمل عرفات مسيرته فوق طريقين متعارضين: طريق المناضل الذي وعد شعبه بالتحرير الكامل... وطريق السياسي الذي أجبرته الخلافات العربية على تقديم تنازلات مؤلمة والقبول بحل الدولتين. وبعد مرور أكثر من سنتين على وفاته لم ينجح وريثه محمود عباس في استقطاب الكوادر الحزبية التي استظلت نفوذ عرفات مدة تزيد على الأربعين سنة. وبدلاً من أن ينظف السلطة من «بطانة» عرفات وحاشيته، قام بتوزيع المكاسب والامتيازات على أفرادها. وقد استخدمت «حماس» هذه الأخطاء أثناء حملتها الانتخابية، وفازت بالأكثرية لأن المقترعين توقعوا ظهور حكم نظيف يتناسب مع شعارات الثورة والتغيير.
مع انتصار «حماس» الساحق تعرضت مصادر السلطة لازدواجية غير جامعة، بحيث بقيت السلطة مع «فتح» وانتقلت الحكومة إلى منافستها «حماس».
وبسبب اقتسام مسؤولية حكومة الوحدة الوطنية بين غزة ورام الله، بدأت تتبلور في القطاع المعزول هوية فلسطينية جديدة مختلفة في طروحاتها عن طروحات السلطة الموجودة في الضفة الغربية. وقد فرض تباعد الموقعين بروز انقسامات قديمة بين فلسطينيي الداخل وفلسطينيي الشتات. وكان من الطبيعي أن تتأثر القرارات السياسية والإدارية بهذا الانفصال، خصوصاً عقب ظهور تناقضات أساسية أضعفت تماسك الحركة الفلسطينية، كما أضعفت انحياز الولايات المتحدة و"إسرائيل" شعبية محمود عباس لأن تعامل الدولتين انحصر بوزراء السلطة. ثم جاءت حرب تموز (يوليو) التي هُزمت فيها "إسرائيل"، لتحرج إيهود أولمرت وتظهره بمظهر العاجز عن مفاوضة الشريك الفلسطيني، أي الشريك الذي يمثل أكثرية وزارية لا تعترف بها "إسرائيل"، وإنما تطالبه بالموافقة على دعم قرارات لم يُستشر بشأنها.
لدى سؤاله عن استعداد «حماس» للاعتراف ب"إسرائيل"، أجاب إسماعيل هنية بأنه سيزيل هذا العائق، عندما تعلن "إسرائيل" عن حدودها النهائية. وفي رأيه، أن الدولة اليهودية استولت على أكثر من نصف أراضي الفلسطينيين، ودفعت حدود 1967 الى ما وراء جدار الفصل. وقال إن «خريطة الطريق» رفضتها حكومة اولمرت ما لم يتم تعديل أربعة عشر شرطاً من الشروط التي وضع شارون تحفظه عليها. وهذا يعني أن التطورات الأخيرة ستعيد خلط الأوراق بين "إسرائيل" والفلسطينيين، وتقضي على كل ما قبلت به "إسرائيل" من حلول، بدءاً باتفاق أوسلو وانتهاء بـ «خريطة الطريق». والسبب أن قيادة «حماس» في غزة ودمشق (خالد مشعل) قد تتبنى برنامج إعلان الاستقلال الذي كرس في مؤتمر الجزائر سنة 1988 والمتضمن «إقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلين منذ 1967».
وبما أن بقاء محمود عباس على رأس السلطة أصبح أمراً محرجاً له ولوزرائه، فإن استقالته ستكون المخرج المشرف الوحيد له عقب انهيار جهازه الأمني. ويتردد في رام الله أنه تلقى تطمينات من واشنطن تجدد شرعية منصبه ودوره، لأن استقالته ستقوض كل الرهانات الدولية على قيام دولة فلسطينية منحازة للغرب.
يجمع المراقبون على القول إن انتصار «حماس» في معركة غزة، أنهى عملياً السلطة الفلسطينية الأولى التي أسسها ياسر عرفات، ثم ورثها من بعده محمود عباس. ومع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وقبول مشاركة الفريقين، لعب أبو مازن دور الرئيس الانتقالي الذي أنهى أهلية السلطة في التوصل إلى حل يقضي بإقامة دولتين.
وهكذا يكون قرار الحسم العسكري في قطاع غزة، قد دشن مرحلة انتقال السلطة من رام الله إلى مدينة غزة، كما دشن بالتالي ابتعاد السلطة الفلسطينية الجديدة عن المحور الأميركي - الأوروبي - الإسرائيلي، واقترابه من محور إيران - سورية. ولأسباب لوجيستية وجغرافية ستظل مصر هي الحاضنة لعزلة غزة، والمؤتمنة على الأموال التي ترسلها إيران الى «حماس».
بثت شبكات التلفزيون يوم الخميس الماضي سلسلة مشاهد كانت أبرزها صورة أسرى «فتح» وهم يقتادون إلى المعتقلات وقد خلعوا بذلاتهم العسكرية ورفعوا أيديهم استسلاماً. كما بثت مرات عدة صورة علم «حماس» وقد رفعه المقاتلون فوق «مركز الأمن الوقائي» الذي يديره محمد دحلان ومن قبله جبريل الرجوب. وفي تفسير قدمه صائب عريقات، لقناة «سي ان ان»، وصف هذه المشاهد بأنها تعكس حقيقة الوضع الذي تعتبره السلطة الفلسطينية انقلاباً عسكرياً. وأبدى عريقات استغرابه لظهور كميات من السلاح في أيدي مقاتلي «حماس»، وقال إن ما يجري في شمال لبنان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بـ «موقاديشو» فلسطين.
المعلقون الإسرائيليون وجدوا في هذا التشخيص ما ينسف المبادرة السياسية التي اطلع إيهود بارك الحكومة عليها، وقال أنه سيعرضها على الرئيس جورج بوش أثناء زيارته لواشنطن يوم الثلثاء المقبل. وهي زيارة فاشلة بكل المقاييس، لأن «حماس» نسفت برنامجها السياسي والعسكري. على الصعيد السياسي كان أولمرت يتوقع تجديد المفاوضات مع أبو مازن بعد تزويد الجهاز الأمني بمصفحات ورشاشات ثقيلة، إضافة إلى الإفراج عن نصف بليون دولار من الأموال الفلسطينية المحتجزة، ومن المفروض أن تتم مراجعة المسار السوري من خلال الإشارات الإيجابية التي قدمتها دمشق، ولكن عملية اغتيال النائب وليد عيدو، أقفلت هذا الملف لأن بوش اتهم سورية بمواصلة سياستها في لبنان والعراق.
عندما أعلن أولمرت أن بلاده لن تخوض الحرب نيابة عن «فتح»، إنما كان يبدد المخاوف التي أعربت عنها وسائل الإعلام الرسمية حين ادعت أن "إسرائيل" قلقة من التداعيات الإقليمية لسقوط غزة في يد «حماس». وذكرت الصحف أن رئيس الجمهورية الجديد شمعون بيريز سيشجع الأميركيين على قبول الأمر الواقع، لأنه هو صاحب نظرية إقامة دولة فلسطينية في غزة. وقد وصفها بأنها قنبلة بشرية موقتة سوف تنفجر في المستقبل بسبب ضيق مساحتها على كثرة سكانها. وفي تصوره ان تمددها سيتجه نحو مصر، كما أن خطابها الإسلامي سيغزو شوارع القاهرة والإسكندرية.
مرة أخرى، يطرح السؤال المتعلق بأسباب التوقيت المتزامن مع تفجير منارتي مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، وعملية اغتيال نائب تجمع 14 آذار وليد عيدو، وإعلان سقوط قطاع غزة في يد «حماس». هل هي الصدفة التي ربطت بين افتعال مشكلة المخيمات بواسطة «فتح الإسلام» وبين تحركات القطع الحربية الأميركية قبالة الساحل الإيراني؟ وهل هي الصدفة التي ربطت بين قرار الكونغرس منح رئيس وزراء العراق نوري المالكي فرصة أخيرة لضبط الأوضاع الأمنية المتردية، أم ان عملية تفجير المنارتين كانت عملاً من داخل صفوف الحراس، كما ادعى المحقق العسكري الأميركي بغرض إثارة فتنة طائفية تعجل في تفكيك وحدة البلاد؟ أم هي الصدفة التي ربطت بين توقيت تقديم تقرير الجيش اللبناني حول تسليح الميليشيات الفلسطينية، وعملية اغتيال النائب عيدو لمصلحة رئيس الجمهورية المقبل، كما لمح وليد جنبلاط ؟
إن الأجوبة على هذه الأسئلة المحيرة تشير إلى احتمال حدوث عمل أخرق بالغ الخطورة، سبق للمؤرخ ارنولد توينبي أن فسره حسب مفهومه لانهيار الإمبراطوريات، بأنه راجع إلى «انتحار الحكمة السياسية!».
كاتب وصحافي لبناني

إذ أصبح الجرح أكبر من الجريح
[ 12/06/2007 - 05:47 ص ]
فهمي هويدي


صحيفة الخليج الإماراتية

حينما تمر أربعون عاماً على النكسة، يحق لنا أن نتساءل عن مواقع أقدامنا الآن. ذلك أن النكسة في حينها كانت وصفاً لهزيمة الجيش والنظام، إلا أن الهزيمة حين تتجاوز تلك الحدود، بحيث تضرب ركائز الأمة وتؤدي إلى تفكيك عراها، فإنها تستحق وصفاً آخر.

(1)

قبل عدة أسابيع (في 3/4) كتبت مقالة نشرت تحت عنوان "عقدنا الذي انفرط"، تحدثت فيها عن الشرخ الذي أصاب العلاقات الإسلامية المسيحية أثناء الجدل الذي ثار خلال مناقشات التعديلات الدستورية، خصوصاً ما تعلق بالمادة الثانية المتعلقة بمرجعية مبادئ الشريعة الإسلامية في النظام السياسى المصري. وهي المقالة التي تعددت الردود عليها، لكنني لم أجد فيها ما أقنعني بأن الشرخ غير موجود، وهو الانطباع الذي لا يزال مستمراً عندي للأسف. بل إنني أزعم الآن أن الشرخ قد اتسع، وأن التوتر الذي تحدثت عنه في بداية شهر إبريل الماضي لا تزداد مؤشراته فحسب، وإنما أيضاً تتعقد ظروفه، حتى قلت في إحدى الندوات التي أثير فيها موضوع حقوق الأقباط إننا تراجعنا كثيراً إلى الوراء في التعامل مع ذلك الملف، لأن الكلام عن الحقوق يصبح وارداً إذا كان هناك توافق على ضرورة العيش المشترك. حيث لا محل للبحث في حقوق وواجبات الشركاء في أي مشروع قبل الاتفاق على إقامة الشركة أولاً، وفي الوضع الراهن في مصر فإن الرغبة في العيش المشترك باتت محل تحفظ من جانب البعض لأسباب يطول شرحها. لذلك فمن الأهمية بمكان أن يتم التوافق أولاً على تلك الرغبة، مع ما تستصحبه من ثقة واحترام متبادل يقدر لكل طرف حجمه وقدره ويحفظ له مكانته، وبعد ذلك يصبح الكلام عن الواجبات والحقوق وارداً.

ليس ذلك موضوعي على أي حال، لكني أوردت النموذج لا لكي ألفت النظر فحسب إلى أن قضية الوحدة الوطنية في مصر تراجعت أشواطاً إلى الوراء، ولكن لكي أنبه إلى أن الانفراط الذي زعمته قبل أسابيع أوسع بكثير من مسألة العلاقات الإسلامية ـ المسيحية، وأن التراجع شمل عناوين أخرى بنفس الدرجة من الأهمية، حيث تعددت الشروخ وبلغ التفكيك مداه، حتى لم يعد في مصر إجماع وطني على أغلب القضايا الرئيسية، الأمر الذي حول البلد الواحد إلى مجموعة من الجزر المتنافرة التي تجمع بينها جغرافية المكان وتفرق بينها تضاريس الزمان.

(2)

خذ مثلاً ذلك الجدل البيزنطي حول انتماء مصر العربي، وهل هو مجرد انتماء ثقافي أم أنه عرقي وعنصري في الأساس. وهل القومية العربية المعبرة عن ذلك الانتماء شيء أصيل في مصر، أم أنها بدعة وخرافة جرى تلفيقها وإطلاقها في المرحلة الناصرية، لتحقيق طموحات بذاتها أضرت بأكثر مما نفعت. فلا صار العرب موحدين ولا بقيت مصر على مصريتها الخالصة. ورغم أن المرجعية الإسلامية تقيس الانتماء العربي بمعيار اللغة وليس العنصر، وتعتبر كل من تمكن من الفصحى عربياً أصيلاً (ثمة حديث نبوي بهذا المعنى) الأمر الذي يعتبر الهوية الثقافية عنصراً حاسماً في ذلك الانتماء، إلا أن ثمة دراسات أكاديمية عدة حققت المسألة. وهذه يحضرني منها الآن كتاب "عروبة مصر" للدكتور محمد عزة دروزة (صدر في لبنان عام 1963)، وفيه يقرر الكتاب أن عروبة مصر "أصفى من عروبة بلاد الشام والعراق".

أستغرب فتح ذلك الملف الآن، في حين تسعى قوى عدة لطمس هوية المنطقة وتقليص المحيط العربي فيها (الدستور العراقي الجديد نموذج لذلك، إذ نص على أن الشعب العربي في العراق - وليس كل العراق- جزء من الأمة العربية)، كما أن أفكاراً عدة تطرح لإعادة تشكيل المنطقة التي يراد لها أن تنسى كونها عالماً عربياً أو أمة عربية، لتنخرط في إطار جديد يستوعب "إسرائيل"، ويسمى بالشرق الأوسط الجديد أو الكبير.

لا أستطيع أن أشكك في نوايا كل الذين أعادوا فتح ملف عروبة مصر في الظروف الراهنة. لكنني لست واثقاً من جدوى ذلك الحوار وفائدته. كما أنني لا أستطيع أن أعزله عن أجواء الاستقالة من العروبة أو إضعاف وشائجها، التي هبت رياحها على المنطقة في أعقاب الحقبة الناصرية، إما لمحو آثارها أو لتصفية الحساب معها. لكنني في الوقت ذاته لا أستطيع أن أحسن الظن بكل الذين روجوا لتلك الاستقالة، سواء من خلال تصفية فكرة القومية العربية والدعوة إلى الكفر بها، أو من خلال رفع شعار بلدنا أولاً، ولا شأن لنا بأعباء الهم العربي. وأذهب في ذلك إلى أن الترجمة العملية لتسويق هذه الأفكار تتمثل في إضعاف كل دولة عربية على حدة، وتسليم الفلسطينيين ل "الإسرائيليين" بالكامل، وتشجيع "إسرائيل" على اجتياح العالم العربي وتركيعه، وإخضاع المنطقة كلها للهيمنة الأمريكية، وإطلاق يد واشنطن في كل قطر عربي، بأكثر مما هي عليه الآن.

هذه الاستقالة من العروبة المثيرة للجدل في مصر التي لها صداها في أقطار عربية أخرى ليست كابوساً مؤرقاً يلوح في الأفق، ولكن لها شواهدها القائمة على أرض الواقع منذ عقدين من الزمان على الأقل، وبالتالي فليس فيها جديد، باستثناء أن البعض يسعى في الوقت الراهن لتأصيلها وإضفاء الشرعية عليها.

سأضرب مثلاً لتلك الاستقالة بعيداً عن السياسة والاقتصاد وينصب على مسألة اللغة، التي أصبحت تجسد الكارثة العربية، مسجلة في ذلك تدهوراً وانحطاطاً غير مسبوقين في تاريخ الأمة، بل مسجلة درجة مخجلة من الشعور بالعار إزاء استخدام ليس فقط العربية الفصحى، وإنما أيضاً العامية الراقية التي تعد ابنة شرعية للفصحى، حتى أصبحت مشكلتنا الآن ليس فقط أن ننقذ الفصحى من الغارة الخبيثة التي تشن عليها، وإنما أن ننقذ العامية من السوقية والابتذال. ومن أسف أن تلك العامية المبتذلة أصبحت لغة معتمدة في مختلف وسائل الإعلام، بل صارت مع الإنجليزية، لغة إحدى القنوات التلفزيونية الجديدة في مصر. ويزيد الأمر غرابة أن تستخدم العامية في إعلانات المؤسسات الحكومية، التي لجأ بعضها إلى نشر إعلانات بالإنجليزية في صحف عربية تخاطب المواطن العربي. ولا يقف الأمر عند ذلك الحد، وإنما وصلت عدوى الوباء إلى المجتمع المصري، الذي أصبح يشارك في هجران العربية والازدراء بها، حتى أصبحت أمنية كل أب أن يلحق أبناءه بأي مدرسة تدرس الإنجليزية أو الفرنسية، أو أي لغة أخرى باستثناء العربية.

(3)

لم يكن الإسلام أفضل حظاً من العروبة، إذ لاحقته بدوره دعوات الإلغاء والإضعاف. ورغم أن هذه الدعوات ليست جديدة، وإنما هي إحدى ساحات المواجهة والصراع بين التيارين الإسلامي والعلماني، إلا أن أجواء الحديث عن التعديلات الدستورية التي شهدتها مصر في مستهل هذا العام وفرت ظرفاً مواتياً لتجديد الدعوة، بجرأة غير مسبوقة، دفعت نفراً من المثقفين والمتعصبين إلى المطالبة بإلغاء كل مرجعية للإسلام أو وجود له في الدستور المصري فضلاً عن الحياة العامة بطبيعة الحال. من ثم فإن ما كان يقال بحذر من جانب البعض، وفي المنتديات والمجالس الخاصة من جانب آخرين، أصبح يتردد في العلن، ويصاغ في بيانات تنشرها الصحف وتجمع عليها توقيعات المثقفين، بل وتعقد لأجلها حوارات تلفزيونية تنفر المشاهدين من الانتماء الإسلامي، وتحرض المجتمع على كل من يرفع صوته معبراً عن ذلك الانتماء. كل ذلك بدعوى مكافحة التطرف والإرهاب وقطع الطريق على إقامة الدولة الدينية واحترام حقوق غير المسلمين. وقد حاولت في عدة كتابات نشرت حينذاك أن أنبه إلى مخاطر ذلك المنزلق، الذي يحاول الرد على شعار الإسلام هو الحل، بالترويج لرؤية خطرة تتبنى شعاراً مناقضاً يحاول إقناع الرأي العام بأن الإسلام هو المشكلة.

خطورة هذه الرؤية تتمثل في ثلاثة أمور، أولها أنها تحدث شرخاً عميقاً في المجتمع المصري المتدين بطبيعته، وثانيها أنها تشكل أرضية مواتية لأصحاب الفكر المتطرف الذين يستخدمون أطروحاتها لإقناع الشباب برفض المجتمع والانقلاب عليه، بحجة أنه ضد الدين. أما الأمر الثالث فهو أن إضعاف التدين يسهل من مهمة رياح التغريب العاتية التي تتطلع إلى اقتلاع كل ثوابت الأمة، التي تحفظ لها كيانها واستقلالها واستمرارها.

صحيح أن إقصاء الإسلام أو إضعافه، يحقق مراد البعض في الداخل والخارج، إلا أنه في الوقت ذاته يعبر عن درجة عالية من قصر النظر، من حيث إن ذلك قد يحقق لبعض الأطراف في الحاضر مكاسب مرحلية أو تكتيكية، لكنه يهدر في المقابل عوامل استراتيجية وثيقة الصلة بعقيدة المجتمع وهويته، الأمر الذي يعني أننا بذلك نقامر على الحاضر والمستقبل كله.

(4)

تطول القائمة إذا ما حاولت أن أحصي العناوين الخلافية الأخرى التي غاب عنها الإجماع الوطني، وتدلل على المدى الذي بلغه انفراط العقد. وإذا جاز لي أن أضرب أمثلة لتلك العناوين فإنني أذكر منها ما يلي:

في الشأن الداخلي، نحن مختلفون حول استحقاقات الأمن القومي المصري وحول خطوات الإصلاح السياسي، وحول مشاركة التيار الإسلامي في الحياة السياسية، وحول بيع القطاع العام وبيع أراضي مصر للأجانب، وحول خصخصة الخدمات ومجانية التعليم. وحول الانحياز للمستثمرين والأغنياء على حساب الفقراء والطبقة الوسطى.

في الشأن الخارجي نحن مختلفون حول الموقف من القضية الفلسطينية، وإقامة السلام المجاني مع "إسرائيل"، وحول التحالف مع الولايات المتحدة، وحول الموقف من الاحتلال الأمريكي للعراق، والصمت المصري على ما يجري في السودان، والضغوط الشرسة التي تمارس ضده مما يؤثر في الأمن القومي المصري، كما أننا مختلفون حول القطيعة المصرية غير المبررة لإيران التي تجاوزت 25 عاماً، وأضعفت من موقف الطرفين في مواجهة التحديات المشتركة بينهما.

أختم بتلخيص تقرير موجع يسجل اتساع رقعة الانفراط تلقيته من رام الله، قبل أيام قليلة، يصور المدى الذي وصلت إليه علاقات بعض الأنظمة مع "إسرائيل" بعد 40 عاماً من النكسة، وفيه إشارة إلى حديث مع وزير الدفاع عمير بيرتس بثته القناة العاشرة للتلفزيون "الإسرائيلي" ذكر فيه أنه حين يلتقي مسؤولين عرباً يشعر بالدهشة من حجم امتعاضهم من وجود حركة حماس في الحكم. هذا المعنى رددته وزيرة الخارجية تسيفي ليفني في تصريحات نقلتها الإذاعة العبرية في (18/5)، قالت فيها إن جميع الرسائل التي تتلقاها "إسرائيل" من الحكومات العربية تؤكد أن الزعماء العرب معنيون أكثر من "إسرائيل" بغياب حركة حماس بأسرع ما يمكن عن دائرة الفعل السياسي الفلسطيني.
وأضافت ما نصه: "كلهم يعيبون علينا وعلى الإدارة الأمريكية السماح بمشاركة حماس في الانتخابات الأخيرة، ويتساءلون لماذا نكون نحن أكثر مرونة في التعامل مع الحركات الإسلامية من الأنظمة العربية التي تفعل المستحيل لمنعها من المشاركة في العملية السياسية". في هذا السياق أشاد شمعون بيريز القائم بأعمال رئيس الحكومة في مقابلة مع إذاعة الجيش "الإسرائيلي" بالدور العربي الرسمي في الحفاظ على حصار الفلسطينيين، وأضاف: الأنظمة العربية مثلنا معنية بعدم نجاح تجربة حماس في الحكم.
الطريف أن معلقاً "إسرائيلياً" بارزاً، هو عنان كريستال، شدد على أن "إسرائيل" معنية بإسقاط حكومة حماس دون أن تبدي أي مرونة في موقفها السياسي، وقال: لو قام العرب وأبو مازن بتقديم رؤوس حركة حماس على طبق من فضة ل "إسرائيل"، فإن أولمرت لن يقدم على أي خطوة في مجال تسوية القضية الفلسطينية.

لقد أصبح الجرح أكبر من الجريح!
العار الذي شهدته غزة
[ 22/05/2007 - 12:08 م ]
فهمي هويدي



صحيفة الخليج الإماراتية
الذي يحدث في غزة الآن وصمة عار في جبين الجميع، المتورطين في داخل القطاع والمتواطئين والمتفرجين في العالم العربي والعالم الخارجي. ولا يكمن العار فقط في الدم الفلسطيني الذي أريق بأيدٍ فلسطينية، ولكن أيضاً في أن الجميع نسوا وهم يتقاتلون العدو الحقيقي الذي يتربص بهم.


(1)

المشهد بلغ ذروته الدرامية يوم الثلاثاء الماضي (15 مايو) الذي حلت فيه ذكرى النكبة الأولى في سنة ،1948 إذ حلقت في سماء القطاع يومذاك الطائرات “الإسرائيلية”، وراحت تطلق قذائفها وصواريخها نحو أهداف محددة في غزة، وفي الوقت ذاته كانت عناصر من قوات الأمن الفلسطينية تعتلي البنايات والأبراج وتذرع الشوارع جيئة وذهاباً مصوبة سلاحها نحو الأهداف ذاتها، في تزامن يثير الانتباه والتساؤل.

كان ذلك إعلاناً عن حلول نكبة جديدة أدهى وأمرّ. على الأقل من حيث إنه في النكبة الأولى تولى “الإسرائيليون” قتل الفلسطينيين في جريمة صامتة في غفلة من العالم. أما في النكبة الجديدة فإن الفلسطينيين يقتلون الفلسطينيين على مرأى ومسمع من العالم. ولم يخل الأمر أيضاً من مفارقة، ففي حين استنفر العالم العربي واحتشدت أغلب أنظمته وشعوبه في صف الدفاع عن “القضية” إبان النكبة الأولى، فإن الموقف اختلف في النكبة الثانية، إذ في ظل ثورة وسائل الاتصال، ورغم أن الفضائيات نقلت جانباً من الأحداث الجارية في القطاع على الهواء مباشرة، فإن العالم العربي ظل ذاهلاً ومتفرجاً.

يضاعف من عمق النكبة الثانية أن نصيب العالم العربي في المشهد لم يكن مقصوراً على مجرد الذهول والحيرة، وإنما أثبتت أدلة وقرائن عدة أن بعض الأطراف العربية كانت طرفاً في خلفية الصراع، حيث لم يكن تحيزها سياسياً فقط لطرف دون آخر، وإنما كان لتلك الأطراف دورها في التدريب والتمويل والتسليح، الأمر الذي يضفي على الصراع بعداً إقليمياً يبدو موصولاً بالحسابات الدولية الضاغطة على الحالة الفلسطينية.



(2)

في وسائل الإعلام تم اختزال المشهد في الصراع على السلطة بين حركتي فتح وحماس، وهو اختزال صحيح لكنه ليس دقيقاً تماماً. وقبل أن أشرح لماذا هو كذلك، فإنني ألفت النظر إلى أن ثمة خللاً في تغطية الوقائع على الأرض في غزة، لأن الصحافيين تلقوا تحذيرات وصلت إلى حد التهديد بالتصفية إذا ذهبوا إلى أبعد من المسموح به في متابعتهم لما يجري. وقد اتصل بي بعضهم هاتفياً وأبلغوني بأنه طلب منهم ألا يشيروا إلى ممارسات الأجهزة الأمنية. ولذلك راينا مثلاً صور برج يسكن فيه بعض قيادات فتح تتصاعد منه الأدخنة والنيران، لكننا لم نر لا قصف منازل قيادات حماس ولا صور الإعدامات التي تمت لعناصر من الحركة، من جانب مسلحي تلك الأجهزة.

لماذا قلت إن اختزال المشهد في الصراع بين فتح وحماس صحيح وليس دقيقاً؟ لأن الكلام له أصل ولكنه ليس كافياً في التعبير عن الحقيقة. يتمثل الأصل في أن ثمة اختلافاً بين الطرفين في النهج السياسي، فأحدهما مع المقاومة والثاني ضدها. لكن العنصر الآخر الذي لا يقل أهمية أن ثمة اقتناعاً بين بعض قيادات فتح بأن السلطة وأجهزة الدولة ملك لها، فهي التي أسستها، وعناصر تلك الأجهزة من كوادرها. وهذا الإدراك إذا كان قد رتب نفوذاً وجاهاً، فإنه أيضاً رتب مصالح كبرى وميزات بلا حدود، يصعب التخلي عنها ولو جزئياً. ولذلك فإن تلك العناصر ترفض حتى الآن الاعتراف بنتائج الانتخابات التشريعية التي جرت بداية العام الماضي. ومن ثم فإنها تصر على إخراج حماس من الحكومة ومن المسرح السياسي الفلسطيني، وهذه رغبة التقت مع حماسٍ “إسرائيلي” وأمريكي شديدين كما التقت مع حسابات بعض الأطراف الإقليمية ذات المصلحة.

إذا أردنا أكثر دقة فقد نقول إن القيادات التي أشرت إليها ليست كل فتح، ومنها عناصر مرفوضة في داخل التنظيم. ولكنها نجحت في اختطاف قيادة الحركة والسيطرة على الأجهزة الأمنية التي يتراوح عددها بين 8 و 10 أجهزة. واستفادت في بسط نفوذها من عاملين آخرين أولهما حسن نية أبو مازن وضعفه داخل الحركة، وثانيهما حرص الأغلبية الصامتة ذات التوجه الوطني على عدم شق الحركة، حفاظاً على تاريخها النضالي.

وفي ذات الوقت، فإن العائلات والعشائر لها حساباتها (لا تنس أن الجميع مسلحون)، الأمر الذي يدفعها أحياناً إلى القيام بعمليات خطف أو إحراق أو حتى قتل، ثأراً لأحد أبنائها الذين ينتمون لفصيل ما، وهو ما يبدو رداً من جانب الفصيل، في حين أنه تصرف عائلي لا أكثر. وإلى جانب العائلات فهناك العملاء الذين تدفع بهم “إسرائيل” إلى ساحة الصراع، سواء لتأجيجه وتوسيع نطاق الاشتباك، أو لتصفية أشخاص معينين، لإثارة ذلك الفصيل أو تلك العشيرة ضد خصومها.



(3)

معروفة قصة المناكفات التي تعرضت لها حركة حماس بعد فوزها في الانتخابات التي أدت إلى رفض الاشتراك في الحكومة الجديدة، واستخدام الفلتان الأمني إلى جانب الحصار الخارجي وسيلة لإفشالها ومن ثم إسقاطها. في تلك المرحلة برزت أهمية دور الأجهزة الأمنية كلاعب رئيسي في الساحة السياسية، يتولى توجيهه الثلاثي النائب محمد دحلان رجل الأمن الوقائي المقرب من الرئاسة، ورشيد أبو شباك الذي عين مديراً للأمن الداخلي، وسمير مشهراوي مسؤول المخابرات.

وبسبب قبض الثلاثي على أجهزة الأمن، فإن سعيد صيام وزير الداخلية في الحكومة السابقة وجد نفسه معزولاً وعاجزاً عن الحركة، فقام بتشكيل القوة التنفيذية التي ضمت عناصر من عدة فصائل وحركة حماس في المقدمة منها. وكان من الطبيعي أن يتم التحرش بتلك القوة والاشتباك معها. الأمر الذي رفع من درجة التوتر في القطاع، الذي حين تصاعد وأوشك الموقف على الانفجار، لم يجد الطرفان مفراً من التفاهم والاتفاق، فلبوا دعوة السعودية إلى عقد اتفاق مكة، الذي أسفر عن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. ولكن يبدو أن “معسكر الضد” في فتح اعتبر الاتفاق بمثابة “هدنة” لترتيب الأوضاع والاستعداد لجولة جديدة من الاحتراب.

ظل الملف الأمني الذي يشكل عصب الاستقرار في الداخل عصياً. وإذ جرى التفاهم في اتفاق مكة على تقسيم الوزارات بين الفصائل، فقد اتفق خلاله على أن ترشح حماس وزير الداخلية من المستقلين، شريطة أن يوافق عليه أبو مازن. وقد اعترض الرئيس الفلسطيني على حوالي تسعة مرشحين، وقبل بالعاشر (هاني القواسمي)، الذي بعد تعيينه واجه نفس مشكلة سلفه سعيد صيام.

ما الذي جرى بعد ذلك؟

أتيح لي أن أطلع على تقرير فلسطيني رسمي داخلي بتاريخ 14/5 الحالي، يشرح خلفيات الانفجار الأخير في الموقف، الذي كانت أزمة وزير الداخلية من العوامل الممهدة له، ويذكر التقرير ما يلي:

أن وزير الداخلية هاني القواسمي لم يجد مفراً من الاستقالة لأسباب ثلاثة: حصار أبو شباك له ومنعه من الاتصال بالأجهزة الأمنية - عدم تمتعه بصلاحيات أدائه لوظيفته - احتجاجه على حالة التعبئة المسلحة التي تقوم بها عناصر فتح، وإدخال أسلحة ومعدات من دون علمه.

رفض رئيس الوزراء الاستقالة، وحرص على أن يعالج الأمر مع أبو مازن، الذي كان في رحلات خارجية أمضى فيها 22 يوماً. وفور عودته التقاه رئيس الوزراء ووزير الداخلية مع آخرين، وكان رد أبو مازن أنه يريد إنجاح مهمة القواسمي. ثم طلب عقد اجتماع منفرد معه استمع فيه إلى وجهة نظره بالتفصيل وأبدى استعداداً لمعالجة الأمر.

في 9/5 عقد اجتماع لمناقشة الوضع الأمني المتدهور، حضره أبو مازن وإسماعيل هنية وبعض المسؤولين، وأثناءه وافق الجميع على اقتراح رئيس الوزراء تشكيل قوة أمنية مشتركة بين حرس الرئاسة والقوة التنفيذية التابعة للداخلية، تمثلان فتح وحماس، لتنفيذ الخطة الأمنية وتكون تحت أمر وزير الداخلية.

خرج إسماعيل هنية من الاجتماع ليبلغ وزير الداخلية بالاتفاق ويطلب منه العدول عن الاستقالة. ولكنه فوجئ بانتشار الشرطة وقوات الأمن الوطني في شوارع غزة، وتبين أن ذلك تم بتعليمات من أبو شباك، ودون علم وزير الداخلية أو رئيس الوزراء أو رئيس السلطة، وكان واضحاً أن المحاولة تسعى لقطع الطريق على تفاهمات الرئيسين.

في 10/5 عقد رئيس الوزراء اجتماعاً بحضور الوزراء المعنيين وقادة الأجهزة الأمنية، اتفق فيه على أمور عدة، بينها وضع إمكانيات الأجهزة الأمنية تحت تصرف وزير الداخلية لإنجاح الخطة الأمنية، وتشكيل غرفة عمليات مشتركة تتبع الوزير، واختيار مسؤول عن القوة المشتركة هو اللواء سعيد فنونه، وسحب قوات الشرطة التي انتشرت من دون علم القيادة السياسية.

في مساء اليوم ذاته عقد اجتماع بمقر الرئاسة حضره أبو مازن وإسماعيل هنية والوزراء المعنيون، اتفق فيه على دعم الرئيسين لوزير الداخلية لتنفيذ الخطة الأمنية، وأيد أبو مازن تشكيل غرفة العمليات المشتركة، كما وعد بإحداث تغييرات في قيادة الشرطة خلال شهر (من هؤلاء مدير الشرطة العميد علاء حسني، وذلك تمهيداً لإبعاد اللواء رشيد أبو شباك).

يوم الجمعة 11/5 عقد رئيس الوزراء اجتماعاً مطولاً مع وزير الداخلية لإثنائه عن الاستقالة بعد إبلاغه بما تم الاتفاق عليه مع أبو مازن. ودعاه لكي يعقد اجتماعاً بين قيادة القوة التنفيذية وقائد قوة الرئاسة العميد منار شحادة، لتشكيل القوة المشتركة. وبعد ذلك اتصل إسماعيل هنية بأبو مازن وأبلغه بما تم، وطلب منه الإيعاز للعميد منار لحضور الاجتماع المقرر مع الوزير لترتيب مسألة القوة المشتركة. وقد وافق أبو مازن على المبدأ والموعد. لم يحضر العميد منار اجتماع الوزير، وتبين أن أبو شباك منعه من ذلك، مصراً على أن يكون اتصال الوزير مع الضباط من خلاله، ومعلناً عن رفضه لفكرة القوة المشتركة. وعلم أن الرجل عقد اجتماعاً مع مجموعة من الضباط، عبر فيها عن مواقفه تلك، كما عبر عن غضبه ورفضه للموافقات التي أصدرها أبو مازن في تفاهماته مع رئيس الوزراء، ودعا أبو شباك ضباطه إلى تصعيد المواجهة ضد الحكومة، الأمر الذي ترتب عليه انتشار القوات من جديد، واعتلاء بعض عناصرها أسطح البنايات استعداداً للخطوة التالية.

بعد هذه الخطوة انفلت عيار الموقف، فاتسع نطاق الاشتباكات وتعددت عمليات الخطف والقصف والقتل على الجانبين، فأجرى رئيس الوزراء اتصالات متعددة مع أبو مازن، ومختلف الأطراف الراعية لاتفاق مكة، وطلب منهم جمع قيادتي فتح وحماس لاحتواء الموقف، والعمل على سحب القوى العسكرية من شوارع غزة. ولكن الانفجار تواصل في اليوم التالي (19/5) الذي كتب فيه التقرير.



(4)

حين انفلت العيار حدثت أمور غير مألوفة تلفت النظر؛ منها أن لجنة متابعة الأحداث التي تضم ممثلاً للوفد الأمني المصري وممثلين عن حركتي حماس والجهاد خرجت في سيارتين مصفحتين ذات مساء متجهة إلى غرفة العمليات فاعترضها حاجز لعناصر الأمن الوقائي، ورغم أن ممثل الوفد المصري العميد شريف عرفهم بنفسه، فإنهم أطلقوا النار على ركاب السيارتين، فأصابوه بشظية في يده. وتكررت الإصابة مع شخص آخر، لكن الوفد المصري آثر أن يمرر بهدوء المسألة التي حدثت لأول مرة حتى لا يدخل في أزمة مع قيادة فتح.

من المظاهر غير المألوفة أيضاً حوادث الإعدام التي تمت في الشوارع لبعض أنصار حماس أو أعضائها، ومنهم من أخذ من بيته وأطلق عليه الرصاص في الشارع. منها كذلك شيوع مصطلح القتل على اللحية (على غرار القتل على الهوية)، حيث كان بعض الملتحين يتعرضون للخطف أو القتل استناداً إلى مظهرهم فقط. ومن المؤشرات ذات الدلالة في هذا السياق سلوك اللواء رشيد أبو شباك الذي بدا فيه منتقداً ومعارضاً لأبو مازن، بل ومتحدياً له هو ورئيس الوزراء، الأمر الذي يثير أكثر من علامة استفهام حول الجهة التي يستقوي بها الرجل في مواجهة الرئيسين.

إذا سألتني: هل لم ترتكب حماس أية أخطاء أثناء المواجهة؟ فردي السريع أنها لا بد وقعت في أخطاء، لكنني لم أشر إليها ليس فقط لأن الفلتان ليس من مصلحتها، ولكن أيضاً لأنني اعتنيت برصد الأسباب وليس النتائج، والأفعال وليس صداها والرد عليها.


تقصي الحقيقة واجب الوقت
[ 20/06/2007 - 07:45 ص ]
فهمي هويدي



صحيفة الشرق الأوسط

قرار وزراء الخارجية العرب بتشكيل لجنة لتقصِّي حقيقة ما جرى في غزة هو أحد القرارات الحكيمة، التي تستحق أن نتمسك بها ونعضَّ عليها بالنواجذ في اللحظة الراهنة، لأن حجم التناقض في المعلومات الصادرة عن الجانبين كبير إلى الحد الذي يدعو أي عاقل إلى ضرورة التوقف والتروي وعدم الانجرار في هذا الجانب أو ذاك، إلا بعد أن تتضح الحقائق الأساسية في المشهد على الأقل. لذلك، فإن تسرع بعض العواصم العربية في التحيز لموقف دون آخر، يعد خطأ جسيماً، يزيد من تعقيد الأمور ولا يساعد على تهدئتها، فضلاً عن حلها بطبيعة الحال.

ومن أسف، أن ذلك التميز كان أشدَّ وضوحاً في أغلب المعالجات الإعلامية، التي سقط بعضها في فخ الدعايات الاسرائيلية، بينما تماهَى البعض الآخر بشكل مثير للدهشة مع تلك الدعايات.

لقد كان أحد الدروس المهمة التي تعلمناها في عالم السياسة، أنه إذا امتدحك عدوُّك في لحظة ما، أو إذا اكتشفت أنك تقف معه في مربع واحد في لحظة أخرى، فاعلم أنك تنزلق في الاتجاه الغلط، وهذا بالضبط ما حدث في المشهد الفلسطيني، حيث إننا واجهنا فيها تلك اللحظة التي سارع فيها كل الخصوم إلى مساندة طرف ضد طرف آخر، كما أننا اكتشفنا ما هو أكثر، حيث وجدنا أن أغلب العواصم العربية تقف مع أولئك الخصوم في جبهة واحدة، ساندت طرفاً فلسطينياً ضد آخر، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان مشهداً محزناً مماثلاً تكررت فيه الوقفة ذاتها، حين اجتمع الخصوم التاريخيون مع أغلب العواصم العربية على مقاطعة الحكومة الفلسطينية المنتخبة، أو حصار وتجويع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

إن المرء لا يكاد يصدق ذلك التوافق المدهش الذي حدث خلال الأيام الماضية مثلاً بين بعض الصحف العربية والاسرائيلية، ذلك أن الإعلام الإسرائيلي هو الذي أطلق على قطاع غزة وصف «حماسستان»، وروج للادعاءات بأنها سوف تستنسخ نظام طالبان، وهو الذي لم يكف عن وصف حركة حماس بأنها منظمة إرهابية، وأن الإجراءات التي اتخذتها كانت بمثابة انقلاب على السلطة، يستهدف اقامة إمارة إسلامية على حدود مصر، تهدد بقية الدول العربية، وهو خطاب لا نستغربه من "إسرائيل"، بل نعده تعبيراً طبيعياً عن مواقفها وخبث مقاصدها، لكن ما نستغربه حقاً أن يتبنى الإعلام العربي الخطاب ذاته ويروج المفردات والمصطلحات ذاتها، الأمر الذي كان له دوره في إشاعة البلبلة والالتباس، لذلك كان من المهم للغاية أن يتم تحرِّي حقائق ما جرى، بحيث توضع الأحداث في إطارها الصحيح، ولكي توزن الأمور بميزان المصلحة الفلسطينية العليا والعربية، وليس المصلحة الإسرائيلية أو الأمريكية، وهو المحظور الذي وقعنا فيه للأسف، حتى صار إعلامنا العربي في أغلب منابره وقنواته، يردد نشيداً واحداً على إيقاع معزوفة يتحكم فيها الأعداء التاريخيون لفلسطين والعرب.

إن ثمة حديثاً متواتراً الآن عن ضرورة الوقوف إلى جانب الشرعية الفلسطينية، وهو حديث مبتسر لا يخلو من نفاق، هو مبتسر لأن في فلسطين شرعيتين لا شرعية واحدة، فرئيس السلطة له شرعيته المستمدة من انتخابات الأغلبية له، والحكومة ايضاً لها شرعيتها لأنها منتخبة بدورها من قبل أغلبية الشعب، ثم إنه حديث مشوب بالنفاق لأن الشرعيتين كانتا على وفاق نسبي في ظل حكومة الوحدة الوطنية، التي تشكلت بعد اتفاق مكة لكن ذلك لم يلق قبولاً، ولم يشفع لهما فاستمرت المقاطعة، الأمر الذي يدل على أن العنصر الحاكم في تحديد المواقف ليس الشرعية المستمدة من تأييد الأغلبية، وإنما هو الهوى السياسي وموازين القوى بالدرجة الأولى، حيث إن شرعيتك يُعترف بها في حالة واحدة، هي ما إذا كانت رؤيتك السياسية محل رضا من جانب الإسرائيليين والأمريكيين. وتزداد شرعيتك بالتالي بقدر انصياعك وتجاوبك مع منطلقات ومخططات هذين الطرفين تحديداً.

ثمة حديث آخر لا يغادر مربع النفاق عن الضرر الذي لحق بالقضية الفلسطينية من جراء ما حدث في غزة. ورغم أن ما جرى يدمي القلب ويحز في كل النفوس، إلا أن القضية الفلسطينية كانت مجمدة، بل كانت في تراجع مستمر بسبب إقامة السور والتوسع في الاستيطان وتغيير الحقائق على الأرض، قبل وقوع الأحداث بزمن غير قصير، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل عن ماهية «التقدم» في القضية الذي أوقفته تلك الأحداث. وإذا كان الإسرائيليون والأمريكيون قد لوحوا في احتفالهم بحكومة الطوارئ بإمكانية مواصلة مسيرة السلام، والتي يعرف الجميع ما حققته حتى الآن لصالح "إسرائيل"، فإن مثل هذا التلويح لا يمكن اعتباره مكسباً للقضية، بقدر ما أنه جهد دعائي فارغ المضمون يصب في مجرى تمييع القضية وإشغال الناس ببعض عناوينها، من دون تحقيق انجاز يذكر على الأرض، يحقق مصلحة للفلسطينيين، إلا إذا كنا قد اعتبرنا أن هدف المسيرة السلمية الآن لا يتجاوز حدود فك الحصار وتحويل الأموال المجمدة لدى الإسرائيليين، واستعادة رضا الرباعية والأمريكيين والإسرائيليين عن الحكومة الفلسطينية.

إن قائمة الحقائق التي يتعين استجلاؤها طويلة. ولأن الحيز لا يتيح لي أن أعرض ما عندي بصددها، فانني سأقتصر على إيراد أهمها من خلال مجموعة من الأسئلة هي:

* هل الذي حدث في غزة انقلاب أم أنه كان تصرفاً من الحكومة الشرعية لإجهاض انقلاب ضدها؟ ذلك أن المعلومات الموثقة تشير إلى أن أبو مازن أبلغ في 10 يناير (كانون الثاني) بأنه «توافرت لدينا بعض المعلومات في الآونة الأخيرة تشير إلى خطة أمنية تهدف إلى الانقلاب على الحكومة والخيار الديمقراطي للشعب الفلسطيني».

* هل كان الذي حدث صراعاً على السلطة ورئيسها أبومازن، أم أنه كان إجراء من جانب الحكومة استهدف بسط سلطاتها على القطاع، ومحاولة التخلص من مراكز القوى التي وقفت وراء الفلتان الأمني وزعزعة الاستقرار فيه، وهي المراكز التي احتمت برئيس السلطة، وتحدته في بعض الأحيان، حيث رفضت تنفيذ الخطة الأمنية التي تم التوافق عليها. وهي ذاتها التي أفشلت مهمة ثلاثة وزراء للداخلية بدءاً من اللواء نصر يوسف، الذي كان فتحاوياً، ومروراً بسعيد صيام الذي كان من قيادات حماس، وانتهاء بهاني القواسمي الذي كان مستقلاً. أليس هذا الذي فعلته حكومة هنية هو ما يجب أن تفعله أي حكومة أخرى في أي بلد عربي، بعدما يتم إفشال كل محاولاتها السلمية لإنهاء الفوضى في البلاد.

* هل صحيح أنه صدام بين حماس وفتح، أم أنه مواجهة بين الحكومة ومجموعة من قادة المليشيات أصحاب المصالح الخاصة، الذين لهم ارتباطات اقليمية وعلاقات مع أطراف هي مناهضة أو معادية للمقاومة الفلسطينية والمصالح العليا للشعب الفلسطيني. وهذه الأطراف، اختطفت فتح واستغلت جماهيرها واستثمرت نضالها؛ ومنهم من لا علاقة له بفتح اصلاً، في حين أن الوطنيين والشرفاء في فتح أخذوا جانباً واحتفظوا بموقف مستقل، لا يؤيد هذه المجموعة؟

أليس هذا الذي جرى هو ما سعت إليه "إسرائيل" والولايات المتحدة والرباعية، من خلال ضغوط الحصار والتجويع التي استمرت طوال ستة عشر شهراً؟. ألم يكن تفجير الوضع الفلسطيني هدفاً أصرت عليه تلك الجهات، وتعجلت حدوثه، حتى بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية؟

* ما حقيقة الدور الذي قامت به بعض الدول العربية في زيادة الاحتقان في داخل القطاع، من خلال دعم موقف الأجهزة الأمنية المقاومة للحكومة، وتزويدها بالسلاح وتدريبها، وتسهيل مرور كافة احتياجات الانتشار والمواجهة الأخرى. وفي حدود علمي، فإن موضوع التدريب أثير في اجتماع مع بعض المسؤولين الأمنيين لإحدى الدول العربية، فكان الرد أن التدريب كان لصالح تعزيز قوة العناصر الفلسطينية المرابطة على المعابر، ولم يكن ذلك صحيحاً، لأن العناصر المذكورة جرى تدريبها على قتال الشوارع، وهي مهمة ليست مطلوبة في حراسة المعابر. وقال لي القيادي الفلسطيني الذي حضر الاجتماع أنه كتم هذه المعلومة ولم يذكرها، حتى لا يحرج المسؤول الأمني الكبير أمام الجالسين.

هل صحيح أن بعض الدول العربية حرصت طوال الوقت على تخريب اتفاق مكة، أو لم تعمل على إنجاحه، لأنها اعتبرته عدواناً على حصتها في القضية، ومن ثم فإنها قبلت به في البداية، لكنها لم تضع ثقلاً يذكر إلى جانب البناء فوقه وتفعيله على أرض الواقع؟

* أين ذهبت توصيات لقاء الفصائل بالقاهرة، الذي تم في شهر مارس (آذار) عام 2005 والتي قررت تعيين لجنة فلسطينية عليا لتفعيل منظمة التحرير وإعادة تشكيل المجلس الوطني؟ ومن المسؤول عن تعطيل تنفيذ هذه القرارات لأكثر من سنتين، رغم أنها كانت تنص على عقد اجتماع شهري لتلك اللجنة العليا؟ ألم يكن من شأن المضي في هذا الاتجاه أن يجتمع شمل الصف الفلسطيني، على نحو يجمع الفصائل حول الأهداف العليا للقضية، بدلاً من ذلك الصراع السقيم على السلطة في غزة.

إن المرء حين يطالع المشهد الفلسطيني عن بعد يجد أن له عناصر جوهرية وأخرى ثانوية. ومن أسف أن الإعلام الساعي إلى الإثارة عادة ما يجد ضالته في العناصر الثانوية، فيسلط أضواءه القوية عليها، وقد تصيدت بعض وسائل الإعلام وأبرزت تصرفاتٍ عدة لرجال القوة التنفيذية وعناصر حماس أثناء المواجهات المسلحة؛ كانت مسيئة وموغلة في الخطأ، وعبر فيها أصحابها عن الانفعال والانتشاء أكثر مما عبروا عن الثقة والمسوؤلية. من ذلك مثلاً، انزال العلم الفلسطيني من فوق بعض المباني واستبدال علم حماس به (وهو الوضع الذي جرى تصحيحه بسرعة). من ذلك أيضاً، اقتحام مكتب أبو مازن ورمي صوره، واحراق بعض المقار التابعة للسلطة، وتصفية أحد الاشخاص المنسوبين الى فتح، ممن كانوا يشرفون على عمليات التعذيب والقمع. من ذلك أيضاً التصريحات التي ترددت على ألسنة البعض وقيل فيها إن ما جرى بمثابة تحريرٍ ثانٍ لغزة، أو إنه يشبه فتح مكة، أو إنه يشكل هزيمة للعلمانيين.. الخ.

لقد ادى التركيز على هذه الأخطاء إلى صرف الانتباه عن الحقائق الأساسية في المشهد، الأمر الذي أسهم في البلية والالتباس، فهل يُقدر للجنة تقصِّي الحقائق أن تباشر مهمتها حتى تتيح لنا أن نفهم ما جرى بالضبط؟


فتاواهم الوحشية في "إسرائيل"
[ 06/06/2007 - 06:06 ص ]
فهمي هويدي



صحيفة الشرق الأوسط

أما وقد شغل الناس في بلادنا بفتاوى إرضاع الكبير وطهارة بول الرسول والحل والحرمة في أشكال الزواج المستجدة، من العرفي الى المسيار والمسفار، فربما كان مناسباً أن نطل على أجواء الفتوى على الجهة الاخرى في "إسرائيل"، لعل ذلك يوفر لنا فرصة للمقارنة بين الخطابين، ومن ثم تقدير الأجواء على الجانبين.

الملاحظة المهمة التي تستوقفنا في قراءة الفتاوى الإسرائيلية التي رصدها زميلنا الصحافي الفلسطيني صالح النعامي، وأشرت إلى بعضها من قبل، أن الخط السياسي والتعبوي فيها كبير على نحو لافت للنظر. والأصل عند المتدينين اليهود أنه في حال تعارضت قوانين الدولة مع ما تدعو اليه فتاوى الحاخامات، فإن الفتاوى هي التي يتعين الالتزام بها وأي كلام تقوله الحكومة وأية تعليمات تصدرها لا قيمة لها. وهذا هو رأي الحاخام ايلي ـ وهو أحد كبارهم ـ الذي تؤيده الأغلبية الساحقة من أقرانه.

أما المحور الأساسي للفتاوى فيتمثل في تحريض المتدينين ضد العرب ففي العام الماضي أصدر مردخاي الياهو، الحاخام الأكبر السابق للدولة العبرية وأهم مرجعية مؤثرة في أوساط الصهاينة المتدينين فتوى دعت الى إبادة الفلسطينيين بشكل كامل. وذكر في فتواه التي حظيت باهتمام خاص من قبل وسائل الإعلام الدينية والمئات من المطبوعات التي توزع داخل الكنائس اليهودية في الدولة العبرية أنه يتوجب قتل جميع الفلسطينيين حتى أولئك الذين لا يشاركون في القتال ضد الاحتلال ولم يكتف الحاخام البارز بذلك، بل اعتبر أن هذه ليست مجرد فتوى، بل «فريضة من الرب يتوجب على اليهود تنفيذها». بعد ذلك قام أحد كبار الحاخامات اليهود بإصدار فتوى تبيح لتلاميذه في إحدى المستوطنات اليهودية شمال الضفة الغربية سرقة محاصيل المزارعين الفلسطينيين، على اعتبار أنها تخص (الأغيار) الذين يجوز لليهود استباحة ممتلكاتهم. وبالفعل تم تطبيق الفتوى وقام تلامذته بنهب المحاصيل الزراعية للفلسطينيين.

دون ليؤر الحاخام الاكبر لمستوطنة «كريات أربع» شمال شرقي مدينة الخليل، رئيس مجلس المستوطنات في الضفة الغربية سار على ذات الدرب حيث أصدر فتوى تبيح للمستوطنين تسميم مواشي ودواب وآبار المياه التي يملكها المزارعون الفلسطينيون في البلدات والقرى المجاورة للمستوطنة. وأيضاً لم يتردد المستوطنون في تنفيذ الفتوى، حيث لم يعد يمر يوم دون أن يستيقظ سكان هذه البلدات والقرى، إلا ويجدوا الكثير من دوابهم قد نفق بفعل السموم التي يرشها المستوطنون على المراعي التي تقصدها ماشية الفلسطينيين.

على صعيد آخر، وجه كبار الحاخامات اليهود رسالة الى رئيس الحكومة السابق أرييل شارون، تضمنت فتوى دينية حثوه فيها على عدم التردد في المس بالمدنيين الفلسطينيين خلال المواجهات المندلعة في الأراضي المحتلة، وجاء في الفتوى التي وقعها الحاخامت المسؤولون عن المدارس الدينية، وفي المقدمة منهم الحاخام دوف لينور ما نصه: «نحن الموقعون أدناه، ندعو الحكومة الاسرائيلية والجيش الاسرائيلي الى العمل حسب مبدأ، من يقم لقتلك، سارع الى قتله». وأضافت الرسالة: «لا وجود في العالم لحرب يمكن فيها التمييز بشكل مطلق، بين المدنيين والجيش. لم يحدث ذلك في الحربين العالميتين، ولا في حرب الولايات المتحدة في العراق، وحرب روسيا في الشيشان، ولا في حروب "إسرائيل" ضد أعدائها». أضاف الحاخامات في رسالتهم أن السؤال المطروح أمامنا هو: هل نحارب العدو من خلال هجوم يقتل من خلاله مدنيون من صفوفه، أو نمتنع عن الحرب بسبب المدنيين فنخاطر بذلك بالمدنيين لدينا؟ الجواب على السؤال نجده ببساطة لدى الحاخام عكيفا «أحد مرجعيات الافتاء لليهود في العصور الغابرة » الذي قال: «حياتنا أولى».

واعتبر الحاخامات أن هذا ما درج عليه ملوك "إسرائيل" على مر التاريخ فهكذا تصرف شعب "إسرائيل" منذ ايام النبي موسى، الذي حارب أهل مدين، وهكذا تصرف (الجلعادي)، شاؤول، داوود، وكل قادة "إسرائيل" على مر العصور، وهكذا تصرفت دولة "إسرائيل" في حرب الأيام الستة، وهكذا هو المتعامل به في القانون الدولي.. «لا حاجة ولا فائدة من انتظار المهاجم حتى يبدأ هجومه، بل يجب استباقه ومنعه من تنفيذ مآربه».

في الرسالة الشهيرة حذر الحاخامات مما سموه التقليد المسيحي في التعامل مع النزاعات، الذي يرفع شعار «أدر خدك الأخرى»، كما هاجموا بشدة وعنف نشطاء السلام الإسرائيليين، حيث تحدثوا عنهم قائلين: «إننا لن نتأثر بأولئك الذين بلغوا الدرك الأسفل منطقياً وأخلاقياً، الذين أصبحوا يفضلون حياة الأعداء على حياتنا».

هذه الأجواء لها صداها في فتاوى أخرى صدرت عن عدد آخر من الحاخامات، وتدور حول الاستهانة بحياة العرب والتحريض عليهم والازدراء بهم. من ذلك مثلاً أن صحيفة «معاريف» نشرت في 16/6/2003 فتوى للحاخام دوف لينور قرر فيها حظر تبرع اليهود بأعضائهم للأغيار، لكنه أباح لهم عند الضرورة تلقي تبرعات مماثلة من أولئك الأغيار. وأمام احتجاج رابطة التبرع بالأعضاء في "إسرائيل" غير الحاخام فتواه قليلاً، بحيث أباح لليهودي أن يتبرع بعضو لشخص يحتاج في حالة الضرورة. وقال إن اليهود إذا امتنعوا عن التبرع للأغيار، فإن هؤلاء الأخيرين لن يعطوهم شيئاً بالتالي وهذا قد يسهم في الإضرار باليهودي الذي قد يحتاج إلى الحصول على عضو بديل ينقذ به حياته، ومن ثم فإنه اعتبر أن السماح بتبرع اليهودي لأي واحد من الأغيار، وهو في حقيقة الأمر احتياط هدفه تحقيق مصلحة اليهودي في أي فترة لاحقة، غدا أو بعد غد.

انطلاقاً من الخلفية ذاتها نقلت صحيفة «يديعوت احرونوت» في 25/7/2002 عن الزعيم الروحي لحزب «شاس» عودفاديا يوسف قوله: إنه حتى يأتي المسيح المنقذ، فإنه سيرسل كل العرب إلى جهنم. وأضاف في كلمة القاها: لماذا لا يفعل أرييل شارون ما يجب فعله؟ إنه يخاف من شعوب العالم، لكن المسيح المنقذ حين يأتي فإنه لن يخشى أحداً، وسيرسل كل هؤلاء العرب إلى جهنم. ويصف يوسيف العرب بـ«الثعابين» ويدعو إلى عدم الوثوق بهم على الإطلاق. والأمر كذلك، فليس مستغرباً أن يصدر أحد الخامات ـ اسحق غينزبرغ ـ كتاباً بعنوان «باروخ البطل» جاء تخليداً لاسم الدكتور باروخ غولد شتاين، الذي قام بعمل جليل ومجيد تمثل في قتل أكثر من عشرين عربياً أثناء ادائهم صلاة الفجر في الحرم الابراهيمي قبل سنوات قليلة، فرفعه الإسرائيليون الى مرتبة القديسين، وجعلوا من قبره مزاراً يتبركون به. أما الحاخام ايلي الباز، الذي يعتبر من أبرز الحاخامات الشرقيين، فلا يفوت فرصة دون التهجم على دين الإسلام والتعرض لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالذم. ليس هذا فحسب، بل إن هذا الحاخام يصر على التذمر أمام مستمعيه بترديد النكات التي تمس المسلمين والفلسطينيين ويستخدم عبارات نابية في مهاجمة المسلمين. أما الحاخام الياهو ريسكين الذي يعد من كبار حاخامات المستوطنين فيسخر من الدعوات لإجراء حوار بين حاخامات اليهود والقائمين على المؤسسة الدينية الرسمية في العالم العربي. ويرى أن لغة الحوار الوحيدة بين المسلمين واليهود هي «الرصاص» معتبراً أنه بدون اقناع العرب بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص بأنه لا يمكن فرض تسوية على «إسرائيل» بالقوة، فإنه لا طائل من مثل هذه الحوارات.

صحيح أن "إسرائيل" دولة علمانية. ومن الناحية القانونية فإن فتاوى الحاخامات في الشأن السياسي تبدو غير ذات قيمة. لكن كلامهم الذي ينطلق من مرجعيتهم الدينية يظل كبير الأثر، خصوصاً مع تزايد نفوذ الاحزاب الدينية، التي تحولت إلى قوة سياسية (مرجحة) لا يستهان بها، ولذلك فإن تأثير تلك الفتاوى يتجاوز دائرة المتدينين، ويشكل عنصراً ضاغطاً على القرار السياسي. صحيح أن المتدينين سواء الذين يتبعون التيار الديني الصهيوني أو التيار الديني الأرثوذكسي يشكلون حوالي 28% من مجمل المستوطنين في الدولة، إلا أن أكثر من 50% من سكان هذه الدولة يعرّفون أنفسهم كمحافظين، وهؤلاء يولون أهمية كبيرة لما يصدر عن المرجعيات الدينية في أرجاء الدولة.

ثمة دراسة أعدها قسم العلوم الاجتماعية في جامعة «بارايلان» التي يسيطر عليها المتدينون تسلط الضوء على تأثير الفتاوى على الإدراك السياسي العام. إذ تبين منها أن 90% من المتدينين يؤمنون بالفتوى التي سبق الإشارة إليها، وتقول إنه في حال تعارضت قوانين الدولة أو تعليمات الحكومة مع فحوى الرأي الذي يتبناه الحاخامات، فإن عليهم أن يتجاهلوا القانون وتعليمات الحكومة. وما يجعل الفتاوى العنصرية ذات تأثير عميق وبعيد المدى، حقيقة أنه منذ عقد من الزمن يلاحظ في "إسرائيل" أن أتباع التيار الصهيوني تحديداً الذين يشكلون بالكاد حوالي 10% من مجمل السكان يتجهون للسيطرة على الجيش والمؤسسة الأمنية، من خلال التطوع للخدمة في الوحدات المقاتلة والمختارة، لدرجة أن مكتب الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي يؤكد أنه على الرغم من النسبة المتدنية لأتباع هذا التيار في التركيبة السكانية للدولة، إلا أنهم يشكلون أكثر من 50% من الضباط في الجيش الإسرائيلي، وأكثر من 60% من قادة الوحدات المختارة في هذا الجيش. ولا خلاف بين علماء الاجتماع السياسي في الدولة العبرية وكذلك الجنرالات المتقاعدين على أنه لن يكون بعيداً ذلك اليوم الذي تنتقل فيه قيادة الجيش بأكملها إلى اتباع التيار الديني الصهيوني. وهو ما أقلق البعض في "إسرائيل"، حتى إن الجنرال شلومو جازين، الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية صرح بأنه يعتبر تغلغل المتدينين الصهاينة في الجيش «أكبر خطر يتهدد الديمقراطية الإسرائيلية». في حين أوصى الجنرال داني ياتوم الذي شغل في السابق منصب رئيس جهاز الموساد بمنع تقدم هؤلاء في الخدمة العسكرية، لكن دعوته رفضت من قبل جميع مستويات الحكم.

ما يثير الانتباه في ذلك كله أن مؤسسات حفظ القانون والنظام في الدولة العبرية لم تحاول ولو مرة واحدة التعرض لهؤلاء الحاخامات أو مساءلتهم على هذا التحريض العنصري الذي لا يوازيه تحريض ليس هذا فحسب، بل إن الحاخامات المتورطين في هذا التحريض يحظون بثقل متزايد في السياسة الإسرائيلية، ويتنافس صناع القرار السياسي في الدولة العبرية على استرضائهم والتقرب منهم، والتزلف اليهم.

إن المرء حين يطالع تلك الفتاوى وما تقوم به من دور تحريضي وتعبوي في خدمة المشروع الصهيوني وأهدافه الشريرة، لا يستطيع أن يمنع نفسه من الشعور بالحزن والحسرة حين يقارنها بالفتاوى التي يشغلنا بها بعض المنسوبين إلى المرجعية الإسلامية، التي في أحسن حالاتها تثير البلبلة بين الناس، وتصرف انتباههم عما هو حيوي ومصيري، ولا تخطو بهم خطوة واحدة إلى الأمام. ادعو لشيوخنا هؤلاء بأن ينير الله بصيرتهم، وأن يرد إليهم رشدهم. وما ذلك على الله بعزيز.


مقدمات انفجار الوضع الفلسطيني
[ 16/05/2007 - 08:08 ص ]
فهمي هويدي




صحيفة الشرق الأوسط

لم يفاجئنا تجدد الصدام المسلح بين حركتي فتح وحماس في غزة. فأي متابع للشأن الفلسطيني كان يعلم جيداً أن ذلك الصدام واقع لا محالة وأن الطرفين يتحسبان له، بل أن هناك تسريبات بأن الأمر سوف يحسم في شهر يوليو (تموز) المقبل بعد أن تستكمل الحركة ترتيب أوضاعها، سواء فيما يخص كميات السلاح أو عودة المجموعات التي تتدرب في الخارج.

متابعو الشأن الفلسطيني يعرفون أيضاً أن اتفاق مكة لم يفتح صفحة جديدة بين فتح وحماس كما كان مرجواً وإنما اعتبر بمثابة «هدنة» بين الطرفين. صحيح أن الاتفاق حقق إنجازاً كبيراً بوقفه الاقتتال بين «الإخوة الأعداء» وبإقناعهما بالعمل معاً في إطار حكومة الوحدة الوطنية. إلا أن هذين الإنجازين لم يغيرا من الموقف الأساسي لقيادة فتح المتمثل في الإصرار على إخراج حماس من اللعبة وإفشال أية حكومة ترأسها، حتى إذا كانت حكومة للوحدة الوطنية. عبرت عن هذا الموقف القرائن التالية:

* إن وسائل الإعلام المعبِّرة عن حركة فتح لم توقف هجومها وتشهيرها بحركة حماس وإثارة الجماهير ضدها، متجاهلة أن اتفاقاً وُقِّعَ بين الطرفين في مكة.

* إن الرئيس محمود عباس ظل يماطل في تعيين وزير الداخلية الذي اتفق في مكة على أن يكون مستقلاً ترشحه حماس ويوافق عليه أبو مازن. وقد رفض ما بين 8 و10 أشخاص رشحتهم حماس، وأخيراً وافق على اسم هاني القواسمي. وبعد الموافقة، فاجأ أبو مازن الجميع بقرارين أثارا الدهشة. وكانا مناقضين لروح الاتفاق؛ الأول أنه استحدث منصب مدير الأمن الداخلي، وعيَّن له أحد رجاله، وهو رشيد أبو شباك، رغم أن القانون الأساسي الفلسطيني ينص على أن وزير الداخلية هو قائد الأجهزة الأمنية. القرار الثاني أنه أصدر قراراً بتعيين محمد دحلان مستشاراً للأمن القومي، الذي يتهمه البعض بأنه المسؤول عن الفلتان الأمني في القطاع، وأنه أحد الخصوم الشرسين لحركة حماس. ولم تكن هذه الخطوة مجافية لروح اتفاق مكة فحسب، وإنما كانت مخالفة للقانون أيضاً، لأن دحلان نائب في المجلس التشريعي ولا يجوز له أن يجمع بين وظيفته كنائب يفترض أن يراقب أداء الجهاز التنفيذي ووظيفته الجديدة التي أصبح بمقتضاها جزءاً من الجهاز التنفيذي، ومعروف أنه وبسبب ذلك التعارض القانوني بين الوظيفتين، فإن السيد جبريل الرجوب قدم استقالته من مجلس الأمن القومي ليخوض الانتخابات التشريعية التي لم ينجح فيها.

من جراء هاتين الخطوتين، فإن وزير الداخلية هاني القواسمي وجد نفسه مقيد الحركة ومعزولاً في وزارته، ومن ثم فإنه صار عاجزاً عن معالجة الفلتان الأمني، وغير متمكن من تنفيذ الخطة الأمنية التي تم الاتفاق عليها في مجلس الوزراء ومع أبو مازن، الأمر الذي اضطره إلى تقديم الاستقالة والتمسك بها، حيث أدرك أن رئيس السلطة مصرٌّ على أن يظل ممسكاً بمفاتيح الأجهزة الأمنية، باعتبارها أجهزة فتحاوية تابعة للحركة وليس للحكومة. ورغم أن رئيس الوزراء إسماعيل هنية رفض الاستقالة في البداية، إلا أنه اضطر إلى قبولها بعدما اقتنع بجدية أسبابها وإزاء إصرار القواسمي عليها.

* حين جَرَى التفاهم بين أبو مازن وهنية لتخفيف الحصار الذي تفرضه قيادات الأمن الفتحاوية على وزير الداخلية، فإن رئيس السلطة وعد بإبعاد مدير الشرطة العميد علاء حسني على أن يشغل مكانه محافظ نابلس كمال الشيخ، وهو من قيادات الشرطة في الضفة، ولكن أبو مازن لا يزال يماطل في تنفيذ الاتفاق وظل الرجل في مكانه متحدياً الوزير ورئيس الوزراء.

* رغم موافقة أبو مازن على الخطة الأمنية التي قدمها القواسمي إلا أن الممارسات التي ظهرت على الأرض دلت على أن ثمة محاولات مكشوفة لعرقلة تنفيذها، تمثل ذلك في الانتشار المفاجئ في شوارع غزة لقوات مختلفة من الأمن الوطني والمخابرات العامة والأمن الوقائي يوم الخميس الماضى 10/5، وكلها أجهزة تابعة للرئاسة، الأمر الذي أدى إلى اصطدامها مع القوة التنفيذية التابعة للداخلية. ورغم ما قيل عن أن ذلك كان بمثابة اجتهاد فردي من قبل بعض الضباط، إلا أنه كان دالاً على أن هناك نية مبيتة لإفشال محاولات ضبط الأمن والإبقاء على الفلتان في الشارع للضغط على الحكومة وإفشال وزير الداخلية.

على صعيد آخر، فإن الاتفاق الذي تم في مكة، والتوافق على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية لم يؤديا إلى تطبيع العلاقات بين السلطة والحكومة، رغم إذابة الكثير من الجليد الذي شاب تلك العلاقة، فلا يزال رئيس الوزراء إسماعيل هنية معزولاً عن جو الاتصالات السياسية التي تجري باسم الحكومة، والتي يقوم بها وزيرا الخارجية والمالية بالتنسيق مع أبو مازن بطبيعة الحال. صحيح أن الوزيرين يضعان رئيس الوزراء في صورة الاتصالات، ولكن الممارسات على أرض الواقع تكاد توحي بأن ثمة حكومتين وليس حكومة واحدة؛ إحداهما في رام الله والأخرى في غزة، ذلك أن مواصلة وزراء في الحكومة الالتقاء مع ممثلي دول أجنبية ترفض التعامل مع رئيس الوزراء، تعني من الناحية العملية تكريس نزع الشرعية عن هنية ووزراء حماس. وثمة مؤشرات تدل على أن الانسجام مفقود داخل حكومة الوحدة الوطنية، ففي الوقت الذي يحكم فيه الحصار حول وزير الداخلية المستقيل بحيث يمنع توجيه قيادات الشرطة الفتحاويين في وزارته، فإن وزراء حماس يتهمون وزير الصحة الذي ينتمي إلى حركة فتح بأنه يقوم بإحصاء عناصر حماس الذين تم تعيينهم في عهد وزير الصحة السابق في حكومة هنية الأولى.

وإذا كانت الأزمة بين فتح وحماس قد استمرت على ذلك النحو، فإن الأزمة التي يعانيها المجتمع لم تستمر فحسب، وإنما تفاقمت أيضاً، ذلك أن الانفراج النسبي الذي حدث على الصعيد السياسي، لم يكن له أي صدى على الصعيد الاقتصادي، حيث لم تتوافر أي مؤشرات على أن الاتفاق أدى إلى وضع حد للحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، وإنما حدث العكس، فهناك دلائل على حدوث انخفاض في المساعدات التي تتلقاها السلطة بشكل أثر على عدم القيام بواجباتها. وما حدث في وزارة الداخلية خير دليل على ذلك، لأن الوزارة باتت توشك على التوقف عن تقديم خدماتها للجمهور بسبب عدم توافر مستلزمات العمل لإنجاز معاملات المراجعين.

وثمة همس يدور في الأوساط السياسية حول دور لبعض وزراء فتح المحسوبين على الرئاسة في التراجع الذي حدث في المساعدات. وقد سمعت من أكثر من مصدر أن اثنين من أولئك الوزراء نصحا بعض المبعوثين الأوربيين بعدم التعجل في إرسال المساعدات، وتأجيل ذلك إلى ما بعد شهر يوليو المقبل، وهو التوقيت الذي رشح لحسم المواجهة مع حماس وإعادة سيطرة فتح بالكامل على السلطة. والهدف من ذلك هو إقناع الرأي العام بأن وجود حماس في السلطة كان عائقاً دون وصول المساعدات، وأن عودة فتح هي التي أحدثت الانفراج المالي الذي انتظره الناس طويلاً.

لا يقلل ذلك من أهمية القرار الإسرائيلي الذي أصبح أمريكياً وأوروبياً باستمرار الحصار ما لم تستجب حكومة حماس لشروط اللجنة الرباعية التي تضمنت الاعتراف ب"إسرائيل" والالتزام بالاتفاقيات ووقف المقاومة تحت عنوان نبذ العنف. فهذا الحصار هو الأصل في الأزمة الاقتصادية الراهنة وأهدافه ونتائجه غنية عن أي بيان.

وإذا كان الموقف الإسرائيلي والأمريكي والأوروبي مفهوماً، إلا أن المرء لا يستطيع أن يخفي شعوره بالدهشة والصدمة إزاء اشتراك الموقف العربي في الحصار، رغم أن مجلس جامعة الدول العربية قرر كسره بعد إعلان اتفاق مكة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية.

وقد كان متوقعاً أن تسهم الدول العربية في تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، سواء من خلال رفع قيمة المساعدات الشهرية التي قررتها القمة العربية (55 مليون دولار شهرياً)، أو من خلال استثمار علاقاتها بالأطراف الأخرى لرفع الحصار والكف عن سياسة تجويع الشعب الواقع تحت الاحتلال (وهذا سلوك غير مسبوق في التاريخ الإنساني)، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث للأسف الشديد. أما الذي حدث فقد كان مفجعاً حقاً، فلا الدول العربية أدت التزاماتها ـ باستثناء الجزائر والسعودية نسبياً ـ ولا هي مارست أية ضغوط على الدول الغربية (الصديقة) لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني. في الوقت ذاته، فإن أغلب الدول العربية واصلت حصارها السياسي لحكومة حماس وليس الاقتصادي فقط. وبدا مدهشاً، أن يدعى رئيس الوزراء إسماعيل هنية لزيارة جنوب أفريقيا ولا يدعى لزيارة مصر على سبيل المثال ـ وفي حين إن الجامعة العربية شكلت لجنة وزارية للاتصال بالدول المختلفة وبينها "إسرائيل" ـ بخصوص المبادرة العربية، فإنها لم تبذل جهداً يذكر لا في معاناة الشعب الفلسطيني ولا في رعاية اتفاق مكة وإلزام طرفيه بنصوصه وروحه.

تتضاعف الفجيعة إذا صحت المعلومات التي تحدثت عن قيام بعض دول الجوار العربية بتدريب القوات التابعة لرئاسة السلطة التي تجهز لمواجهة حماس في غزة، وتلك التي تحدثت عن تكفل إحدى الدول الخليجية بتمويل صفقات السلاح التي ترسل لحساب الرئاسة لذات الغرض وإذا أضفنا إلى ذلك المعلومات التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية عن موافقة الكونغرس الأمريكي على تقديم 60 مليون دولار للرئاسة الفلسطينية للإنفاق على إعداد وتدريب القوات الأمنية التابعة لها، فإن ذلك يعني أن المشهد الفلسطيني يتجه إلى ما هو أسوأ، الأمر الذي لا تستبعد معه التوقعات بحدوث مواجهة كبرى خلال شهر يوليو المقبل.

الله وحده يعلم ما الذي سيحدث إذا انفجر الموقف على هذا النحو الذي يخطط له، لكن ما نعلمه أن حماس أصبحت بصدد خيارات صعبة، فإما أن تستمر في الحكومة وتخوض الصراع إلى آخره مع ما قد يرتبه ذلك من نتائج مأساوية يدفع الشعب الفلسطيني ثمنها من دمه ومن حلمه، وإما تنصاع لشروط الرباعية متنازلة عن مبادئها وثوابتها مقابل الاستمرار في السلطة ورفع الحصار، الأمر الذي يحولها إلى فتح ثانية ـ وإما تنسحب من السلطة وتضحي بها، لتقف في موقعها الأصلي في صف المقاومة والمعارضة للحلول المطروحة التي تضيع القضية.

لكن هذه ليست الخيارات الوحيدة، لأن هناك احتمالاً آخر يتمثل في استبدال انفجار العلاقة بين حماس وفتح بانتفاضة شعبية ضد الاحتلال بمختلف ممارساته من الاجتياحات والتجويع، إلى السور والمستوطنات. إذ من شأن تلك الانتفاضة أن تخرج الجميع من المأزق وتقنعهم بتجاوز الصراع العبثي حول سلطة وهمية، وتذكرهم بأن الاحتلال هو أصل الداء وأن وحدها المقاومة هي الدواء.

هذا الخيار ليس مستبعداً لكن هناك خياراً آخر أقرب إلى المعجزة (أليس من حقنا أن نحلم؟) أن يتغير شيء في الموقف العربي يقلب المعادلة ويقلب معها صفحة الأحزان والمواجع التي نستشعرها.. حينئذ فقط يستقيم أمر القضية، ويوضع الحصان أمام العربة.

No comments: